الذي لا يعرف يقول "عدس"!

  • 179

حُكي أنه كان هناك تاجر عطارة في حلب، وكان عنده شاب قد وثق فيه يعمل معه، ودارت الأيام واتسعت تجارة العطار وزادت مع ذلك ثقة الرجل في الشاب يوما بعد يوم. وفي يوم أرسل العطار ذلك الشاب ليأتي له بشيء من بيته. فلما ذهب فتحت الباب له ابنة العطار وكانت ذات جمال، فكأنَّ الشاب غازلها أو نظر إليها.. وانقضى الموقف وظن الشاب أن الأمر سيمر فمضى إلى عمله وعاد العطار إلى بيته ليلا فحكت البنت لأبيها ما كان من الشاب. وفي اليوم التالي: ذهب العطار كعادته لتجارته فإذا بالشاب في عمله يتنقل بين الغلات ويفحص الجوالات، فلما نظر للتاجر وجد أن مجيئه مجيء غاضب يتطاير من عينه الشرر، فأيقن أن ابنته حكت له؛ فأمسك الشاب بسرعة جوالا من العدس مثقوبا وأخذ يجري بها، فطفق الرجل يجري خلفه والناس ينظرون ويقولون:

أترون العطار بعد خدمة الشاب له كل هذه المدة يجري خلفه لأجل أنه أخذ جوال عدس، سبحان الله، رجل بخيل! رجل جاحد! لا يقدّر خدمة الشاب له.
فوقف العطار وقال المثل الشهير": الذي يعرف يعرف! والذي لا يعرف يقول عدس".

وكأن حاله: أنتم لا تعرفون أن المسألة مسألة عرض وشرف ليست عدسا!


وتحولت عندنا في مصر إلى: (اللي ميعرفش يقول عدس) ولقصة المثل روايات كثيرة.
أحبتي! القاعدة المقررة تقول: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره". وكم من المواقف والأقوال التي نحكم عليها دون أن ندرك حيثياتها ولا الدوافع لفعلها فنقع في سوء الظن أو القطيعة أو الخوض في أناس دون أن نسمع منهم فقط نحكم بالظاهر لنا رغم أنه كما قيل: "وراء الأكمة (الصخرة) ما وراءها"، وهو مثل يضرب لمن يحكم على أمر ولم يحط به من جميع جوانبه.
و في ذلك يقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : "إذا أتاكَ الخصمُ و قَد فُقئتْ عينه فلا تحكمْ له حتى يأتي خصمُه فلعلّه قد فُقئتْ عيناه"
و هذا صحيح .. فنحنُ بسبب عواطِفنا ، قد نقِف في صف من نُحِب و قد لا نكون منصفين!، وأحياناً يستعطِفنا الشاكي بعباراته، فنظنُّ أنَّ الحَق معه! وسبب آخر .. أننا نسمع لأول من يأتي ! فإذا جاء الطرفُ الآخر شاكياً ، تكون أنفسنا مشحونة عليه، فلا نستمع له مثل استماعِنا للأول و قد نعتقِد أنه يكذِب !


لذلك يجب على من أعطاهُ الله العقل الراشِد و مَن جعله الله موضِع الثِقة من الناس أن يكون منصفا .. بل ويجب أن نحسن الظن ونسأل مستفسرين قبل أن نكيل التهم، وانظر إلى هذا المثال السامق:


روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: آنت هي؟ لقد كبرت لا كبر سنك فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني أبدا، أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ فقالت يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أم سليم! أما تعلمين شرطي على ربي؟ أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة".

فانظر إلى استفسارها: (أدعوت؟) ثم جعلها القول على سبيل الزعم من الجارية: (زعمت..). فهذا هو أدب التبين والاستيضاح قبل الحكم، واحذر أن تكون مع من قيل فيهم: الذي لا يعرف يقول عدس!
رزقكم الله التثبت والاستيثاق .. وإلى اللقاء.