مظاهر القسوة في حياتنا... أسباب وعلاج (6) الظلم المجتمعي والتفاوت الطبقي

  • 1017
1

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد حَرَّم الله الظلم على نفسه، وجعله بين العباد مُحَرَّمًا، كما أخبر عنه رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح، وأقسم -سبحانه- بعزته وجلاله لينصرن المظلوم ولو بعد حين، كما ثبت في الحديث الصحيح، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ -رضي الله عنه- الذي يحبه: (اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (متفق عليه)، ولو كانت هذه الدعوة من كافر، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).  

والظلم قد يكون من فردٍ لآخر، وهذا لا يزال موجودًا في البشرية منذ قَتَل ابن آدم الأول أخاه، وقد يكون من المجتمع لطائفة يستضعفها أهل القوة والسلطان والغِنى، كما قال -تعالى-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:4-6).

ومَن نَظَر في التاريخ؛ وَجد أن ظلم المجتمع الذي تمارسه الطبقة القوية الغنية يؤدي إلى ردِّ فعلٍ عنيفٍ تترعرع فيه القسوة بأنواعها وصورها الفكرية والعملية؛ فتأمل فيما تَعَرَّض له بنو أُمَيَّة من القسوة البالغة على يد العباسيين حتى ذَكر المؤرخون أن عدد مَن قتلهم أبو مسلم الخراساني في تأسيس دولة بني العباس بلغ ستمائة ألفٍ مِن بني أُمَيَّة وجنودهم!

إذا تأملتَ هذا وجدتَه ثمرةً مُرَّةً لوقائع قسوة عديدة، وظلم مجتمعي مَارَسَه الأمويون في ملكهم ابتداءً مِن قتل الحسين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأهل بيته في كربلاء، ثم وقعة الحرة التي استُبيحت فيها المدينة النبوية ثلاثة أيام وأعقَبَها موت يزيد، ثم جرائم الحجاج بن يوسف الثقفي الذي سمَّاه رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُبِيرَ في قوله: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) (رواه مسلم). أي: مُهْلِكًا. ونقل النووي -رحمه الله- الاتفاق على أن المهلك المبير هو الحجاج، وقد قَتلَ وصَلب عبدالله بن الزبير، وقَتل القُرَّاء في فتنة ابن الأشعث، وقَتل سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه، وعشرات أو مئات الألوف من وقائع القتل الله أعلم بها؛ جعلت مخالفي بني أمية على قناعةٍ تامةٍ أنه لا يصلح معهم إلا القسوة البالغة، وقد حدث ذلك بالفعل.

وكذلك في التاريخ كان قتل خوارزم شاه رسل "جنكيز خان" -على خلاف الشريعة؛ لأن الرسل لا تقتل في شريعة الإسلام- سببًا لهياج التتار على بلاد الإسلام، فقتلوا ما لا يحصيه إلا الله من ملايين المسلمين في البلاد المختلفة.

وكان الظلم المجتمعي الذي مَارَسَته الكنيسة في العصور الوسطى مع سلطة القياصرة الجبرية وسومهم الناس سوء العذاب، السبب في العنف والقسوة الذي مارسته الثورة الفرنسية طيلة 50 عامًا من القتل والتدمير.

وفي التاريخ المعاصر: نجد أن ما صَنَعَه إبراهيم باشا ابن محمد علي وجنوده في تخريب "الدرعية" عاصمة الدولة السعودية الأولى في الحملة التي قادها بأمر الدولة العثمانية لمقاومة الدعوة الوهابية، وقد مارسوا في تخريبهم للدرعية من القتل والسلب والاغتصاب ما ظل راسخًا في القلوب.

وهو الذي أَنْبَتَ التطرف الفكري لدى الكثيرين في الدولة السعودية الثانية مِن القول: بعدم العذر بالجهل، والحكم على ديار المخالفين بأنها ديار كفر حتى ولو كانت مكة والمدينة، والتوسع في التكفير بالعموم، وبمطلق الموالاة دون تفصيلٍ بين ما يكفِّر وما لا يكفر، وكذلك في تكفير مَن لم يُكَفِّر ولم يُقَاتِل رغم نص الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب على خلاف ذلك حيث قال: "فإذا كنا لا نُكَفِّر مَن عَبَد الصنم الذي على قبر البدوي لأجل جهلهم وعدم مَن ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَن لم يكفِّر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم"، وهذا وأمثاله مما يصدون به عن دين الله، وصارت قاعدة: "مَن لم يُكَفِّر الكافر فهو كافر" يُكَفَّر بها الألوف إلى يومنا هذا -بل والملايين-؛ فوُجد بسبب الفظائع التي جَرَت في الحرب ضد الدعوة الوهابية مَن يحرِّف النصوص الواضحة للإمام ويحملها على غير وجهها، وقد تأكد ذلك لديهم إذ وَجدوا مِن العساكر الفرنسيين واليونانيين المرتزقة الذين استعان بهم إبراهيم باشا ممن ليسوا مسلمين وكانوا غير مختونين؛ فكان وجود هؤلاء سببًا في تعميم التكفير للعساكر المصرية، بل وللدولة العثمانية كلها! مما يجزم المنصف أنه مخالف لما عليه العلماء الكبار في الدعوة الوهابية زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعده كذلك، وهذا رد فعل سيئ لفعل سيئ، وقد تَبَرَّأ الشيخ الإمام وأئمة دعوته من هذا الانحراف.

ومَن تأمل فكر التكفير المعاصر في جماعة "شكري مصطفى"، وجماعات القطبيين، والتوقف والتَّبَيُّن -وإن كانوا دون جماعة شكري مصطفى في درجة التكفير-، وكذلك ما تفرع عن "القطبية" من تنظيم "الفنية العسكرية"، وجماعة الجهاد التي تفرع عنها تنظيم: "القاعدة" الذي انقسم منه تنظيم: "داعش" المنقسم على تنظيم: "جبهة النصرة" الممثّل للقاعدة في الشام؛ لوجدنا ما مارسوه مِن قسوة كان نتيجة للقسوة والظلم المجتمعي الذي مارسه نظام عبد الناصر في سجون 54 و65، فنَمَت البذرة التي وضعها مُفَكِّروهم وترعرعت وكبر النبات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم كانت هزيمة 67 المدوية، وكسر جبروت النظام فيها مؤكدة في حِسِّهم أنه انتقام الله للمظلومين، مع أن الضرر الذي حدث فيها كان مصيبة للأمة كلها، وهل احتلال المسجد الأقصى مِن قِبَل اليهود فيها إلا مصيبة كبرى بالمسلمين جميعًا مِن أعظم مصائب التاريخ، وكذا احتلال كل فلسطين، وشبه جزيرة سيناء، والجولان، والضفة وغزة، مما نعاني من آثاره إلى اليوم.

ووالله إن الله لا يُدِيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، وإن الله يُبقي مدة من الزمن الدولة الكافرة إذا كانت أبعد مِن ظلم الملوك كما علل به عمرو بن العاص بقاء الروم إلى آخر الزمان كما في صحيح مسلم عن المستورد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ)، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ؛ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ).

ووالله إن سُكْرَ القوة والسلطة الذي يأخذ الطبقة القوية في المجتمع فتَبغي على الناس، وتظلمهم ويُملي الله للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته هذا السُّكْر يؤدي إلى إشعال النار تحت الرماد تنتظر لحظةً للانتشار والامتداد؛ وهل الخراب الذي حصل في ليبيا وسوريا إلا مثالًا على ذلك؟! بسبب الظلم الفظيع الذي وُجد قبل الثورات، ولقد كاد أن يُودِي الظلم والفساد الذي كان في عهد مبارك بالبلاد -بلاد مصر-؛ لولا فضل الله علينا بأن نجانا مِن الفوضى المدمرة، وإن كانت سُنَّة الله لا تبديل لها فيمن جرى على سنن السابقين، حدثت لهم عواقبهم (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)؛ فمَن غَرَّته قوته سَلَّط الله عليه مَن هو أعنف وأقسى.

ويتمثل العلاج في: منع الظلم ورفعه، وإقامة العدل وسرعة إنفاذه -فإن العدل البطيء ظلم سريع-، ومنع منح الصلاحيات الواسعة التي تتجاوز الشرع ثم الدستور -الذي هو العَقد الاجتماعي بين الناس، والذي يجب الوفاء به- والقانون، الذي يَحفظ للناس كرامتهم وإنسانيتهم؛ هو مما يوافق الشرع، فيجب احترامه.

ولا يجوز بحالٍ اضطهاد طائفة من المجتمع دون جُرم يرتكبه أفرادها لمجرد الشكل والهيئة، وإذا كان عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد قال للخوارج بعد أن نَاظَرَهم هو وابن عباس حبر الأمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- على ما أظهروه من بدعة التكفير: "لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم مساجدنا، وأن لا نمنعكم الفيء ما قاتَلتم معنا، وأن لا نقاتلكم ما لم تسفكوا دمًا حرامًا"، ولم يُقاتلهم بالفعل حتى سفكوا الدم الحرام وقَتلوا عبد الله بن خباب؛ فأرسل إليهم أن أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله! فهنا عزم على قتالهم، ولم يَختلف في قتالهم أحد.

فالواجب أن لا يُؤخذ إنسان بجُرم غيره، ولا تُحاسَب طائفة على ظلم بعض أفرادها؛ إلا إذا عاونتهم الطائفة ومنعتهم مِن وصول يد العدل إليهم كما فعل الخوارج.

وأما الظلم بمجرد الشبهة، والاضطهاد بمجرد الظن، والإقصاء والتهميش والإذلال بمجرد الهيئة؛ فإنه نذير سخط من الله، وانتشار للقسوة التي لا تُبقي ولا تذر.

وأما التفاوت الطَبَقي فنتناوله في المقال القادم -إن شاء الله تعالى-.

اللهم احفظ بلادنا آمنة مطمئنة رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.