مساجدنا تشتكي روادها فجرًا

  • 378
1

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن حياة المسلم تعْتريها حالاتُ نقْصٍ وقصور، وقد يكون ذلك في فضائِل الأعمال، وقد يتعدَّى إلى واجبات الدّين، وزمنُنا المعاصر مليء بمثبِّطات الإيمان ومعوِّقات الطاعات، شُبه وشهوات، تَجعل الحليم حيرانَ، مَن لَم يقَع فيها نالَه مِن ذكائِها.

ومظاهر التَّقصير في الطَّاعات في أمَّتنا كثيرةٌ، وصُوَرها متعدِّدة، ونحن نقِف على إحْدى هذه المظاهر وتلْك الصور، وقد انتشرتْ واشتهرت اشتِهارًا، حتَّى لحقت بعض الأخْيار مع أنَّها سمة للمنافقين -نعوذ بالله من حالِهم-.

هذه الصورة مستقْبحة شرعًا، ومَمقوتة فطرةً وعرفًا، مَن قامت به قامت به الأدْواء، ومَن وقع فيها وقع أسيرًا للأهْواء؛ إنَّها الإعراض عن صلاة الفجر، إعراض عن الجنَّة، إعراض عن ذمَّة الله وجواره؛ يقول الله تعالى: (وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء:78)، قال ابن مسعود -رضِي الله عنه-: "(وَقُرْآنَ الفَجْرِ): صلاة الصبح. ومعنى (مَشْهُودًا): تشْهده الملائكة؛ حفظةُ اللَّيل وحفظة النَّهار".

وفي البخاري ومسلم عن أبي هُريْرة -رضِي الله عنْه- عن النَّبي -صلَّى الله عليْه وسلَّم- قال: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ... )، ثُمَّ قال أبو هُريرة -رضي الله عنه-: اقرؤوا إن شئْتُم: (وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء:78).

وقال قتادة: "كنَّا نتحدَّث أنَّ عندها يجتمع الحرسان من الملائِكة: حرس الليل وحرس النَّهار"؛ فكيف تطيب لك نفسٌ -أيُّها الأخ- وقد حُرِمْت شهود الملائكة؟! وكيف تطلُب السَّعادة في يومِك وقدِ استفتحته بالنَّوم عن قرآن الفجر؟!

قال -صلَّى الله عليْه وسلَّم- لفضالة: (حافِظُ على العَصْرَيْنِ: صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِها) (رواه أبو داود والحاكم، وصححه الألباني)، وعن أبي موسى -رضِي الله عنْه-: أنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم- قال: (مَن صلَّى البردَين دخل الجنَّة) (متفق عليه). والبَرْدان: الصُّبح والعصر.

وقال -صلَّى الله عليْه وسلَّم- في الحديث الَّذي أخرجه مسلم: (لن يلِج النَّار أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشَّمس وقبل غروبِها). يعني: الفجر والعصر.

وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: (مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (رواه مسلم).

وعن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم- يقول: (مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ) (رواه مسلم).

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: (مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

فيا عجبًا كيف نغفل عن هذا الفضل؟!

كيف نزهَد بجنَّة عرضُها السَّموات والأرض، فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذُن سمعتْ، ولا خطر على قلْب بشر؟!

وكيف نرْضَى لأنفُسنا أن تقوم بها صفات أهل النّفاق والشّقاق -والعياذ بالله-؟! فقد قال -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ) (متفق عليه).

وعن ابن عمر -رضِي الله عنْهما- قال: "كنَّا إذا فقدْنا الرَّجُل في الفجْر والعِشاء، أسأْنا به الظَّنَّ".

وقال ابن مسعود -رضِي الله عنْه- في أهمّيَّة صلاة الجماعة -في الفجر وغيرها-: "ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنْها -أي: صلاة الجماعة- إلاَّ منافق معلوم النّفاق، ولقد كان الرَّجُل يؤْتى به يُهادى بين الرَّجُلين حتَّى يقام في الصَّفّ".

وقال أبو هُريْرة -رضي الله عنه-: "لأن تمتلئ أذُن ابن آدم رصاصًا مذابًا خيرٌ له من أن يسمع النِّداء ولا يجيب!".

وقال سعيد بن المسيّب -الَّذي ما أذَّن المؤذّن أربعين سنةً إلاَّ وهو في المسجد- في قولِه -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم:42-43): "كانوا يسمعون: (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) فلا يُجيبون وهم أصحَّاء سالمون".

إنَّ هذا الكمّ الهائل من النّصوص والآثار في صلاة الفجر والجماعة؛ لَهو رسالة موجَّهة إلى النَّفس التي حجبتْها الشَّهوات والشُّبهات عن طاعة الله، فتقاعستْ عن صلاة الفجْر، وهي شِعار صَريح وفيْصل واضح بين الصَّالح والمنافِق.

فهل مِن عودة إلى الله؟

هل من مُحاسبة للنَّفس قبل أن تُحاسب؟

يا عبد الله، ربَّما تصلّي الفجر في جماعة فيصلَّى عليْك في الظُّهر، فكُن في ذمَّة الله وجواره ولا تنقض العهْد، فكم من نفسٍ أصبحتْ في الدُّنيا وأمست في القبر!