نعمة الأمن وسبل تحقيقه (2)

  • 293

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا يشك عاقل في أهمية هذه النعمة؛ فهي مطلب نبيل تهدف المجتمعات البشرية وتتسابق لتحقيقه بكل الإمكانيات الفكرية والمادية، وكل على حسب مشاربه واتجاهاته وافكاره، والكل يسعى، ولا شك أن الكل يقول إنه على الصواب، حتى ولو كان يفسد في الأرض ويعيث فيها فسادًا، فمِن وجهة نظره الخاطئة: أن ذلك يحقق له ما يريد.

وهنا سؤال يطرح نفسه: على مَن تقع المسئولية في تحقيق الأمن؟!

والإجابة: لا شك أنها تقع على الراعي والرعية، على الدولة والأفراد والمؤسسات؛ كل على حسب ما كلف به، فالكل مشترك في ذلك بالالتزام بالأسباب الآتي ذكرها، والتي إن التزم بها الجميع تحققت النعمة، وإنما قصدتُ من وراء سؤالي حتى لا يلقي أحدٌ التبعة على الآخر، ويتنصل من دوره المنوط به.

والسؤال الآخر: ما هي الأسباب التي نتحصل بها على هذه النعمة؟

هناك أسباب وهمية قد يتعلق بها البعض ويظنها الأصل، وهناك أسباب حقيقية هي يستجلب بها الرحمات والخيرات مِن إله الأرض والسموات.

فمن الأولى: قوة الحصون والقلاع والأبواب والحراس مع إقامة الناس على مخالفة أمر الله وشرعه! لكن السؤال: هل أغنت هذه الحصون عن يهود بني النضير شيئًا؟! قد أخبر الله عنهم: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) (الحشر:2)، فكان الجندي الخفي من الله: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (الحشر:2)، فما أغنت عنهم الحصون وما حققت لهم الأمن.

ثانيًا: قد يقول قائل: البطش والقتل والتعذيب يحقق الأمن والاستقرار! وهذا في الحقيقة من أعظم عوامل هدم المجتمعات؛ إذ يخلق في قلوبهم حالة من الكبت والغيظ متي استطاع أن ينفذها ويفجرها فجرها؛ وقد قص القرآن بعض أخبار هؤلاء، وكانت النتيجة الهلاك والبوار؛ اقرأ فواتح سورة القصص، وفي السنة خبر غلام الأخدود، وكان عقبي الأمر إلى بوار.

ثالثًا: هل التسامح مع المجرمين والخارجين عن كل الحدود يحقق الأمن والأمان؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترك العرنيين الذين قتلوا راعي إبل الصدقة وسرقوها، بل أقام عليهم حد الحرابة وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم.

وأخشى ألا يكون توازن بين الأمر الثاني والثالث فيعاقب الأبرياء ويُترك المجرمون، وهذا ما يؤذن بهلاك وذعر في المجتمعات.

رابعًا: هل الذنوب والمعاصي والخروج عن الشرع والدين يحقق الأمن؟!

والإجابة: تتلخص في عددٍ مِن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبرزها، قوله -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها آمنة مطمئنة مستقرة يخطف الناس مِن حولهم، جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها نعمة بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- إليهم؛ ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف".

وقال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41).

فالجزاء من جنس العمل، وكما يعمل العباد يكافئون.

فنتيجة ما تقدم أن هذه الأسباب وهمية، وليست حقيقية لمن تعلق بها وقال إنها تحقق أمنًا واستقرارًا، ويبقى أن نتعرف على الأسباب الحقيقة لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في المجتمعات.

وهذا في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.