• الرئيسية
  • المقالات
  • (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)

  • 618

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛    

فتَمُرُّ الأُمَم والشعوب والجماعات بأزمنةٍ طويلة، تظل فيها الأمور على وتيرةٍ واحدةٍ؛ يظن كثيرٌ مِن الناس فيها أنها لن تتغير، وربما يُقسم البعض على عدم تَغَيُّرها (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (إبراهيم:44-45).

وفي هذه الأزمنة: يَطغى مَن يَطغى، ويَظلم مَن يَظلم، وينمو التقليد الأعمى ولو كانت أبسط نظرات العقول تدل على بطلانه، ثم تأتي أيامٌ فارِقة تضطرب فيها الأحوال فجأة، وتختلف القلوب، وتتفرق الأمم، وتتغير الموازين، وتتفاوت أنظار الناس، والقرارات فيها مِن أخطر ما يمكن؛ إذ إن أثرها يستمر أجيالًا على الأمة أو الشعب أو الجماعة؛ فربما قرار لم يَستفرِغ مُتَّخِذُه الوسع في الاجتهاد فيه ولم يُعمِل النظر في المآلات، وإنما حملته على قراره العاطفة وربما كان الجهل؛ (اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (متفق عليه)، وربما كان البغي؛ (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (الجاثية:17).

ولقد بقيت أُمَمٌ عقودًا مِن الزمان في حروبٍ واقتتالٍ وفِتَن، ذاق بعضهم فيها بأس بعض، وانتشرت بسبب ذلك بدع وضلالات، وسُفِكت دماء وانتُهِكت حرمات، وتَسَلَّطَ الأعداء واحتُلَّت البلاد، غير ما يَتساهل الناسُ فيه من الكلام الفاحش البذيء، والغيبة والنميمة والكذب، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15)، وكما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صاحِبَي القبرين: (أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) (متفق عليه).

وفي هذه الأوقات العصيبة يكون السائر فيها كسائرٍ في طريق الشوك؛ العاقل فيها يَحذر ما يرى، بل ربما يكون كالسائر في حقول ألغام، يخشى أن ينفجر فيه لغم في أي وقت، ويقف العلماء فيها مشفقين في أمور الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد؛ لأن الأمور فيها تشتبك، وقَلَّما خلصت حسناتٌ ومصالح أو سيئاتٌ ومفاسد في جانب واحد؛ بل كل قرار يتضمن حسناتٍ وسيئاتٍ معًا، ومصالح ومفاسد مجتمعة معًا؛ لا يَنفَكُّ فاعلُها أو قائلها عن فِعلها مُجتمِعة أو تركها مجتمعة؛ وهذا يحتاج إلى اجتهادٍ أعمَق، ودرايةٍ بالواقع أكثر، ونظرٍ إلى المآلات أبعَد؛ لينظر أي الأمور أرجح بميزان الشريعة؛ فإن كل أحدٍ يَدَّعي الإصلاح ومحارَبة الفساد كما قال -تعالى- عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12)، وقال -تعالى- عن فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26)؛ فلابد أن توزن المصالح والمفاسد بميزان الشريعة، وهي تحتاج إلى علمٍ راسخٍ، وإلا لم يصح الميزان.

وقد يُقدِم الإنسان على الكفر ويَظُنُّه مهارةً سياسية، وقد يفعل النفاق ويَظُنُّه حِنكة وخبرة، وقد يُقدِم على التهور والشطط وهو يَظُنُّه شجاعة وجرأة، وقد يُحجم عن الواجب ويَجبن عنه ويقول: (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) (التوبة:49)، وهو يرى ذلك حكمةً وتؤده.

وأحيانًا تكون الأمور واضحة، وأحيانا تُظلم الدنيا ويصعب الاجتهاد؛ فتكون الشورى في تلك الاحوال أَوجَب، ومراجعة التاريخ أَلزَم، والنظر في تجارب سبقت لنا أو لغيرنا آكد.

والعجيب: أن أكثر مَن يُقدِم بسرعة على فتوى أو عملٍ هم حُدَثاء الأسنان سفهاء الأحلام، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يعرفوا بدهياته وأولوياته، وأعجب مِن ذلك: أنك تجد هؤلاء في أشد العنف على مَن خالفهم، وربما كَفَّروه أو نفقوه، وربما استحلوا دمه وعرضه وماله!

والعباد الصالحون في هذه المِحَن يستحضرون خطرها -ليس على أنفسهم فقط؛ بل على أُمَّتِهم- ويستشعرون المسئولية عن أبناء أُمَّتِهم في حاضرهم ومستقبلهم، كما يوقنون بضرورة الثبات على الدين والمنهج وتَجَنُّب البدع والانحراف؛ فإن أوقات الفتن تظهر فيها البدع، وتُفقَد فيها الثقة في أهل العلم، كما ظهر الخوارج في الفتنة بين الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، ولم تستوعب قلوبُهم المريضة الخلاف بينهم؛ فطرحوا كلامهم ومنهجهم وابتدعوا بدعة التكفير، واستحلوا دماء خير أهل الأرض تَقَرُّبًا إلى الله! تعالى الله عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا.

والعباد الصالحون يعلمون أن من أعظم واجبات الوقت في هذه المِحَن هو الصبر والصلاة، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)، وقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:45-46)، فمَرَّة خَتَم بفضل الصبر، ومَرَّة خَتَم بفضل الصلاة والخشوع فيها.

وهذا الصبر هو على التزام الشرع وإِعمال الأدلة دون الجري وراء العواطف الجاهلة، واقتراحات الفاسقين وبدع المبتدعين، والصبر على بذل الجهد في وزن المصالح والمفاسد ومعرفة المآلات، والصبر عن مجاراة أهل الظلم والفساد، والصبر على الطاعات وعن المعاصي وعلى أقدار الله المؤلمة في الجملة.

والصلاة راحة القلب، ونعيم الروح، وقُرَّة العين، وزوال الضيق: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وهي موضع العطايا واستجابة الدعوات؛ فبدعوةٍ صادقةٍ تُستجاب تتغير أممٌ وممالك ودُوَل، وتفرج كروب، وتزاح هموم، بل تتغير الحياة على وجه الأرض! كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وفي رواية: "فَزِعَ إِلَى الصَّلاةِ"، وكان يقول: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وكان يقول: (يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)؛ أما عَلِمنا كيف تغيرت الحياة على وجه الأرض بدعوات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلةَ "بَدر"، فإنه ظل طول الليل قائمًا يصلي تحت شجرة ويدعو، وأنزل الله عليه: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) (الأنفال:9)، فلا يزال الإسلام قائمًا ولا يزال الله يُعبَد في الأرض بهذه الاستجابة من الله لدعوة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولو شاء لما عُبِدَ في الارض بعد ذلك اليوم لو هلكت هذه العصابة؟!

أما عَلِمنا دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاته ليلة رحيل الأحزاب حتى أرسل الله (عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) (الأحزاب:9)، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) (الأحزاب:25-27)؛ كل ذلك بعد أن كادت المدينة تُقتَحَم وتقع فيها فتنة الشرك؛ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) (الأحزاب:14).

فاستحضِروا إخوة الإسلام مسئولية أُمَّتِكم ووطنكم ودعوتكم -وليس فقط مصلحتكم الشخصية أو مصلحة طائفتكم-، ولا تكن مُوازَناتكم مبنية على نفعكم وضركم، فـ(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج:38)، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:64)، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو الذي يجعل لعباده المؤمنين مثل ما جعل لرسله سلطانًا فلا يصل إليهم أعداؤهم بالضرر -سلطان الحُجَّة وسلطان الحفظ-، قال -تعالى- لموسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص:35).

وأكثِروا من الصلاة؛ فالقرارات الصائبة والأعمال الصالحة لا تأتي مِن تضييع الأوقات على صفحات "الفيس"، ومجموعات "الواتس"، والدوران على مواقع الأنباء المليئة بالكذب والخداع؛ بل بكثرة الصبر والصلاة، والله المستعان.

اللهم احفظ مصر وأهلها وأُمَّة الإسلام كلها مِن كلِّ سوءٍ وشرٍّ. آمين.