صفات عباد الرحمن (3) الحلم

  • 356

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

المقدمة:

- الإشارة إلى موضع الشاهد من الآيات: قوله -تعالى-: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان:63)، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تزيده شدة الجاهل إلا حلمًا" (اهـ). وقال الحسن البصري: "المؤمن حليمٌ لا يجهل وإن جُهِل عليه، وتلا قوله -تعالى-: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)"(1).

- تعريف الحلم: قال الراغب الأصفهاني: "ضبط النَّفس والطِّباع عند ثورة الغضب، وعدم الانفعال". وقال الجرجاني: "الطّمأنينة عند ثوران الغضب، والعدول عن مجازاة الظَّالم".

- ما أحوجنا الى التحلي بهذا الخلق، لا سيما في هذا الزمان الذي فسدت فيه الأخلاق، وتفاخر الناس فيه بالغضب والثوران(2).

(1) مكانة الحلم من الدين:

- وصف الله به نفسه، فهو يرى معصية العصاة، ويشهد مخالفه أوامره وارتكاب نواهيه، ولا يسارع -سبحانه- بالعقوبة: قال -تعالى-: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء:44)، وقال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل:61).

- أمر به أشرف خلقه -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى-: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران:159)، وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).

- مدح به أصفياءه وأولياءه المتقين: قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود:75)، وقال عن إسماعيل: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات:101)، وقال عن أوليائه: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ) (رواه مسلم).

(2) فضل الحلم ومكانته من الدين:

- الحلم طريق إلى الجنة والفوز بنعيمها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).

- الحلم دليل على قوة القلب وشجاعة النفس، وليس الضعف كما يتصوره البعض: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (متفق عليه)، قال أحدهم لضرار بن قعقاع: "لو قلتَ واحدة أسمعتك عشرة، فقال له: ولو قلت عشرة لم أسمعك واحدة" (أدب الدنيا والدين، للماوردي ص 254).

- والحلم يجعلك في حفظ الله وكفايته مِن الجاهلين.

(3) الرسول القدوة في الحلم:

- حياته كلها صبر وحلم، وأعظمه ما كان في دعوة المشركين: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (متفق عليه)، وكذلك: حلمه وصفحه -صلى الله عليه وسلم- عن أهل مكة يوم الفتح مع ما فعلوه(3).

(4) مِن حلم السلف -رضي الله عنهم-:

- عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحلم بالمسيء عندما ذكر بالقرآن: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا»، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ (وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ) (رواه البخاري).

- زين العابدين بن علي بن الحسين وحلمه بالجارية: "جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق مِن يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فَقَالَت الجارية: إن الله -عز وجل- يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فَقَالَ لها: قد كظمت غيظي، قَالَت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قَالَ: قد عفا الله عنك، قَالَت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قَالَ: فاذهبي فأنت حرة" (رواه البيهقي في شعب الإيمان وفي سنده انقطاع).

- الشعبي يدعو لمن جهل عليه: "شَتم رجلٌ الشَعبَيَّ، فقال له: إن كنتَ صادقًا فغَفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

- الشافعي -رحمه الله- يرغِّب في الحلم ناظمًا:

يخاطبني السفيه بكل قـبحٍ                فـأكره أن أكـون له مجيبًا

يزيد سفـاهة فـأزيد حـلمًا                 كعـودٍ زاده الإحـراق طيبًا

(5) أسباب تعين على التحلي بالحلم:

أ- احتساب أجر الصبر على الأذى عند الله: قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

ب- طلب التحلي بمكارم الأخلاق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا... ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وروي: "مر المسيح عيسى ابن مريم على يهود، فقالوا له شرًّا، فقال لهم خيرًا. قيل له: إنهم يقولون شرًّا وتقول خيرًا؟! فقال: كل ينفق مما عنده" (إحياء علوم الدين للغزالي).

ت- إفساد كيد الشيطان: قال -تعالى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء:53)، وقال أبو الدرداء لرجل سبه: "يا هذا، لا تُغرق في شَتمنا ودَع للصُّلح مَوضعًا، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه" (أدب الدنيا والدين للماوردي، ص 225).

ج- المجاهدة والتدرب على الحلم ولو بتكلفه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنّما العِلْمُ بالتّعَلُّمِ، وإنّما الحِلْمُ بالتّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومنْ يَتَّقِ الشّرَّ يُوَقَّهُ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).  

ح- رجاء تحول المعتدي إلى صديق: قال -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)، ولقي رجل زين العابدين بن علي في الطريق، فسبه، فثار إليه مَن معه، فقال لهم: "مهلًا، ثم أقبل على الرجل، فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك مِن ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (البداية والنهاية).

فاللهم ارزفنا صفات عبادك الصالحين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بعض الناس يرد على مَن جهل عليه "سلامًا" بطريق التنقص والاحتقار، وليس ذلك هو المقصود، بل المقصود رد الاساءة بالإحسان، يعني: أنت في سلام ولا ينالك مني أذى (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) (مريم:47).

 (2) فكم مِن جريمة وقعت ونفوس أزهقت بسبب عدم الحلم، وكم مِن أرحام قطعت، وأسر هدمت وأطفال شردت بسبب عدم الحلم! وكم مِن دمار وحروب وعداوات وفوضى في البلاد والعباد بسبب عدم الحلم، وإذا كان الحلم مطلبًا في كل وقت، فإنه يزداد في زماننا هذا الذي يصدق فيه قول القائل: "زمان صار فيه الحليم حيرانًا".

(3) ومِن ذلك حلم وصفح نبي الله يوسف -عليه السلام-: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ . قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:91-92).