نيل الأماني في ظلال السبع المثاني (2)

  • 253

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

بسم الله الرحمن الرحيم:

معنى قول العبد: "بسم الله" أي: باسمه تعالى أقرأ أو أتلو، ومعناها مِن حيث كونها قرآنًا وكلامًا مِن كلام الله: باسم ربكم اقرأوا، وباسمه ابدأوا في كل عمل، فهو أمر مِن الله جاء بصيغة الخبر.

وتأمل تجد في تلك الكلمة مِن أوجه البلاغة: الإيجاز بالحذف، أي: حذف الفعل اقرأ. وفي الحذف وفائدته يقول ابن القيم: "هذا موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله، والفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم".

 فقوله -تعالى-: "بسم الله" يعلِّم الله فيه عباده أن يبدأوا باسمه في كل عمل؛ لأن العمل الذى لا يُبدأ باسم الله عمل أقطع أبتر ناقص، كما روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما كان هذا العمل ناقصًا؛ لأن صاحبه لم يوفِّ ما عليه مِن حق؛ لأنه لما كان الله هو خالق الخلق كلهم، ومدبر شئونهم ومصلح أحوالهم، وهاديهم إلى مصالح معايشهم؛ كان مِن مقتضيات شكر العبد لربه ألا يبدأ إلا باسمه -تعالى-؛ لأنه مِن بخسان الحق وكفران النعمة ألا تبدأ باسمه -تعالى-؛ فضلًا عن أن تبدأ باسم غيره!

قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "وقد اختلفت الأقوال في نية البدء باسمه -تعالى-، فقال بعضهم: أبدأ باسم الله متبركًا بهذا البدء، أي: ليبارك الله في العمل. والسديد في هذا أنني أبدأ باسمه مستأذنًا، فلو لم يأذن الله لنا في قراءة كتابه أو أكل رزقه ما فعلنا، ولما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان اذا استيقظ مِن نومه يذكر الله ويقول: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

ولا تعارض بين هذين القولين؛ فيبدأ العبد مستأذنًا متبركًا مستعينًا، فيجمع بين هذه النيات والمقاصد في آنٍ واحدٍ أو يستشعر كل معنى منها في مرة أو ركعة؛ لتتجدد معاني البسملة في قلبه ووجدانه.

الحكمة مِن الوصف بالرحمن الرحيم:

لك أيها القارئ الكريم أن تسأل: إذا كان اسم (الله) قد اشتمل على معاني الأسماء الحسنى كلها، ومنها معاني الرحمة والبر؛ فلماذا وصف لفظ الجلالة (الله) بالرحمن الرحيم، مع أنه يدل على صفة الرحمة بالجملة؟!

والجواب:

اعلم -رحمنا الله وإياك- أن لهذا الوصف ولهذا الإتباع فوائد وحكم:

- منها: أن يعلم العبد أن هذا الإله الذي تضمَّن اسمه (الله) معاني العظمة والقوة، والرحمة والعدل، قد سبقت رحمته غضبه، وفاق فضله عدله، وغلب على صفاته وصف البر والإحسان، فالعفو أحب إليه مِن الانتقام، والمغفرة أرضى لنفسه من العقوبة؛ لأنه رحمن رحيم.

- ومنها: أن يعلم العبد أن رسالة الله إليه (القرآن) إنما هو مِن أوله لآخره رحمة؛ لأن البدء يدل على فحوى الكلام إذا كان المتكلم عالمًا بأصول الكلام والفصاحة، وليس أحدًا أعلم باللغة مِن خالقها ومبدعها، والقرآن نزل بلغة العرب، وهذه عاداتهم؛ فلا يبدأون رسالة حرب بسلام، والعكس، فلما بدأ الله كتابه بالبسملة وذيَّل البسملة بقوله: "الرحمن الرحيم"؛ دل ذلك على أن القرآن بحله وحرامه، وحدوده وشرائعه، ووعده ووعيده، رحمة للعالمين إذا اتبعوه، قال -تعالى- في وصفه: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:203).

- ومنها -وهي تابعة لما قبلها-: أنه ما دام هذا الإله رحمانًا رحيمًا، وما دام كتابه الذي هو مصدر شريعته الأول رحمة؛ فإن علاقة العبد مع هذا الرب (العبودية)، وتنفيذ أوامر هذا المصدر التشريعي (التكاليف التشريعية)؛ كل هذا مبني على قاعدة الرحمة ورفع الحرج، فلا عسر ولا حرج ولا تغليظ، قال -تعالى-: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (1) وقال أيضا ( لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها ) (2)

وخلاصة القول في "بسم الله الرحمن الرحيم": أن العبد يبدأ تلاوة كتاب ربه باسم الله؛ فهو خالقه ورازقه وهاديه، وليس للعبد أن يبدأ باسم أحدٍ سواه، فإن فضله سبق كل فضل، ونعمته فاقت كل نعمة خاتمًا هذا البدء باسميه: "الرحمن الرحيم" مطالعًا ما ينطوي عليه هذا الختام مِن برٍّ وإكرام؛ إذ جعل -سبحانه- الرحمة قاعدة عبوديته، وفحوى رسالته، فكان أرحم بعبادة مِن الوالدة بولدها.