دروس وعبر من حجة سيد البشر... (كَذَاكَ سَوْقُكَ بِالْقَوَارِيرِ)

  • 1308

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما أن تمر علينا هذه الأيام المباركات كل عام؛ إلا وتهب علينا نسائم الإيمان، ويتفيأ العبد ظلال هذه المشاهد العظيمة مِن حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكثيرة هي الدروس والعِبَر مِن حجة سيد البشر -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

ومنها: درس عظيم مبارك، وهو حسن العشرة مع نسائه، ومعاملتهن معاملة مفعمة بالمحبة والمودة، والرفق بهن، والشفقة والصبر على ما يمر بهن مِن أحوال يتضجر منها غالب الناس عادة؛ فقد وقف -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، في أكبر محفل عرفته البشرية يومها، في قلب الجزيرة العربية، فيما يزيد على مائة ألف مسلم ومسلمة، وخطب خطبة جامعة، عُرفت بخطبة الوداع، ذكر فيها أربعة بنود، فيها جماع الدين والملة: بندًا للجاهلية وصورها، وبندًا لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وبندًا للاعتصام بالكتاب والسُّنة، وكان النساء بندها الرابع، حيث قال: (فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (رواه مسلم).

وهذا يدل على حضور شأن النساء في خطبه الجامعة، وعلى مكانة المرأة في المجتمع المسلم؛ وإلا لما أفرد لها بندًا كاملًا في خطبة وداعه.

ولقد كانت حجته -صلى الله عليه وسلم- نموذجًا عمليًّا على هذا، وكان حاله كما ثبت عنه عن عائشة -رضي الله عنها-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ونحن في هذه المقالة نتوقف عند هذا المعنى العظيم في حياته -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) مِن خلال مشاهد متعددة في حجته -عليه الصلاة والسلام-.

والإنسان يتعجب أشد العجب من هذه المواقف العظيمة، والواحد منا اليوم في سفره مع أهله وأبنائه، وليس بسفر طويل كالحج مثلًا، تجده يتضجر وتضيق نفسه مما يعرض لهن مِن أحوالٍ، هذا وهي زوجة واحدة، فما بالنا بتسع؟!

فهذا رسول الله معه تسع نسوة لكل منهن أو بعضهن مواقف وعوارض، وليس هن فحسب، بل أكثر من مائة ألف فيهم الرجال والنساء، بل والأطفال، لكل منهم مشكلته وسؤالاته، وهو مع هذا كان رفيقًا شفوقًا تجد عنده حسن المعشر، والمواساة والملاطفة، وغيرها مِن المعاني العظيمة التي تجلت في حجته، فدعونا نستعرض بعضًا مِن هذه المواقف، ونستلهم دروسًا وعبرًا مِن حجة سيد البشر -صلى وسلم عليه رب البشر-.

المشهد الأول:

قال ابن القيم -رحمه الله- في الزاد: "وأخذ معه نساءه جميعًا، وطاف عليهن كلهن ليلة بات بذي الحليفة".

وهذا مِن حسن عشرته وعدله، فقد كانت عادته في سفره أنه يقرع بين نسائه في سفره، أما في حجة الوداع فقد أخذ نساءه جميعًا؛ ففضلًا عن معنى أداء الفريضة عليهن، فيه معنى حسن العشرة، وحرصه على استرضائهن كلهن.

وتأمل طوافه عليهن جميعا ليلة بات بذي الحليفة، ففيه العدل التام بينهن فهو سيحرم مِن غده، ويريد التفرغ للنسك والعبادة، فلم يقسم وأعطى الجميع حقه -عليه أفضل الصلاة والسلام-، ونحن في غنى أن نجيب عن هذه الشبهة السمجة كيف وقع هذا؟ وإلا فقد قص -صلى الله عليه والسلام- عن نبي الله سليمان -عليه السلام- وهو مِن أنبياء بني إسرائيل، وهم أساس هذه الشبهات مِن يهود ونصارى، ومَن تبعهم مِن ملاحدة وزنادقة، أنه طاف على سبعين امرأة في ليلة واحدة، وليس تسعًا.

وكما أخذ نساءه جميعًا، حثَّ غيرهن من النساء على أداء فريضة الحج، ولو كن بهن مرض، فقد ثبت عنه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- علَى ضُبَاعَةَ بنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقالَ لَهَا: (لَعَلَّكِ أرَدْتِ الحَجَّ؟) قالَتْ: واللَّهِ لا أجِدُنِي إلَّا وجِعَةً، فَقالَ لَهَا: (حُجِّي واشْتَرِطِي، وقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي). وكَانَتْ تَحْتَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ. (متفق عليه).

وهذا حرص منه على أن تكون النساء معه في أداء الفريضة ولو بهن عوارض: كالمرض، ويوجهن ويعلمهن، فـ(إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، كما ثبت عنه -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

المشهد الثاني:

يقصه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- راوي حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: (اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي) (رواه مسلم).

موقف يعجز اللسان أن يعبِّر عن بعض معانيه، امرأة ولادتها مِن اليوم أو الغد، ومع هذا تخرج في هذه الرحلة الشاقة اليوم، فما بالنا بيومها؟!

والله إنه الحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي خالطت بشاشته الإيمان، ورسول الله المعلِّم المربي يترفق، ويعلمها أن تغتسل للإحرام -لا لرفع الحدث-، وتضع خرقة وتشدها موضع خروج الدم، وتكمل عبادتها التي ضحت لأجلها وخرجت، وهي في هذا الحال، ويكرمها، فيحنك ابنها ويسميه محمدًا -هو محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما-، ورضي الله عن أمه أسماء بنت عميس، وصلى الله على رسول الله وسلم تسليمًا كثيرًا.

المشهد الثالث:

وهو مشهد عظيم نترك الحديث لصاحبته تقصه علينا، فعن صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها-: أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حجَّ بِنِسِائِهِ حتَّى إذا كان بِبَعْضِ الطَّريقِ نَزَلَ رجلٌ فساقَ بِهِمْ فأسرعَ، فقال النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "كَذَاكَ سوقُكَ بالْقَوَارِيرِ" -يعْنِي النساءَ-، فَبَيْنَا هُمْ يَسِيرُونَ بَرَكَ بصفيةَ ابنةِ حُيَيٍّ جملُها وكانَتْ من أحسنِهِنَّ ظهْرًا، فبَكَتْ وجَاءَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حتى أُخْبِرَ بِذَلِكَ فجَعَلَ يمسَحُ دُمُوعَهَا بيدِهِ، وجعلَتْ تَزْدَادُ بُكَاءً، وهو يَنْهَاهَا، فلمَّا أكثرتْ زَبَرَها وانتهَرَها، وأمرَ الناسَ فنزلُوا، ولم يكن يريدُ أن ينزلَ، قالَتْ: فنزلُوا وكان يَومِي. فلَمَّا نَزَلُوا ضُرِبَ خِبَاءُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ودخلَ فيه، قالَتْ: فلَمْ أَدْرِ عَلامَ أَهْجِمُ مِنْ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فخَشيتُ أنْ يكونَ في نفْسِهِ شيءٌ، فانطلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ فقلتُ لَهَا: تَعْلَمينَ أَنِّي لم أكُنْ لِأَبيعَ يَوْمِي من رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أبدًا، وَإِنِّي قَدْ وهبْتُ يَوْمِي لَكَ على أن تُرَضِّي رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عنِّي, قالَتْ: نعم. قال: فأَخَذَتْ عائشةُ خمارًا لها قَدْ ثَرَدتْهُ بزعفرانٍ فرَشَّتْهُ بالماءِ لَيُذَكِّىَ ريحَه ثم لبِسَتْ ثيابَها، ثمَّ انطلَقَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فرفَعَتْ طَرَفَ الخِبَاءِ، فقالَ: "مالَكِ يَا عَائِشَةُ؟ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَوْمِكِ"، قالتْ: ذلِكَ فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَقَال معَ أَهْلِهِ، فلَمَّا كانَ عندَ الرَّوَاحِ، قالَ لِزَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ: "أَفْقِرِي أُخْتَكِ صَفِيَّةَ جملًا" وكانَتْ مِنْ أكْثَرِهِنَّ ظهْرًا. فقالَتْ: أنا أُفْقِر ُيَهُودِيَّتَكَ؟! فغَضِبَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حينَ سَمِعَ ذلِكَ مِنْهَا، فهَجَرَها فَلَمْ يُكَلِّمْهَا حتَّى قَدِمَ مَكةَ وأيامَ مِنًى في سفَرِهِ حتى رجعَ إلى المدينةِ والمحرمِ وصَفَرٍ، فلَمْ يَأْتِها ولم يَقْسِمْ لها حتى يَئِسَتْ مِنْهُ، فلَمَّا كانَ شهرُ ربيعٍ الأولِ دخلَ علَيْهَا فَرَأَتْ ظِلَّهُ فقالَتْ: "إنَّ هذا لَظِلُّ رجلٍ" وما يدخلُ علَيَّ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فدخلَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فلمَّا دخلَ قالتْ: يا رسولَ اللهِ، ما أدري ما أصنعُ حينَ دخلْتَ علَيَّ، قال: وكانتْ لها جارِيَةٌ وكانتْ تُخَبِؤُهَا مِن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقالَتْ: فُلَانَةٌ لكَ، فمَشَى النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إلى سريرِ زينبَ وكان قَدْ رُفِعَ فَوَضَعَهُ بيدِهِ ثمَّ أصابَ أَهْلَهُ ورَضِيَ عَنْهُمْ. (رواه الإمام أحمد في مسنده).

ومرة أخرى -والله- يقف الانسان عاجزًا أن يعبِّر عما في صدره عن روعة هذه المواقف!

اسمع إليه -صلى الله عليه وسلم- وهو يلاطف الرجل الذي يسوق ركب النساء، ومثل هذه الشخصيات لا يهتم بشأنها أحد في العادة: "كَذَاكَ سَوْقُكَ بِالْقَوَارِيرِ" فهو إنكار مفعم بملاطفة، بل تأمل هذا الوصف الذي يشع رقة وحنانًا "القوارير"؛ لتعلم مدى عظمة هذه الشخصية العظيمة المباركة!

وانظر إليه وهو يمد يده على خد زوجته ليمسح دموعها، شفقة وحسن معاشرة، ولطف بليغ، وقارن بينه وبين مَن يمد يده اليوم لا ليمسح الدموع، بل يلطم الخدود، بل والعياذ بالله قد يكسر عظمًا أو يترك زرقة في موضع مِن البدن أو يحدث جرحًا، وكل هذا لا يجوز حتى مع جواز التأديب بالضرب؛ هذه حاله -عليه الصلاة والسلام-، ولما زاد بكاؤها زبرها ونهرها، ومع هذا أنزل الركب، ولم يكن يريد أن ينزل شفقة عليها، وإصلاحًا لشأن مركبها!

بل انظر إلى فقهها وهي تعرف مَن يحب رسول الله، وهي عائشة، فتصلح غضبه بشأن ما يحبه، حتى لو فاتت ليلتها، وهذا حسن عشرة متبادل بين رسول الله وزوجاته، وفيه دليل على فضل عائشة -رضي الله عنها- ومكانتها عند رسول الله، وعند بقية زوجاته ويلاطف عائشة بأنها ليست ليلتها، وعائشة تفرح وتستشعر كرم الله عليها بقربه وبمنزلتها عنده.

وأمهات المؤمنين بشر مِن البشر، يصيبهن ما يصيب بقية النساء من الغيرة، وخلافه، فأم المؤمنين زينب من الصالحات الطيبات، وعُرف عنها الزهد، والعبادة، وكثرة النفقة، ونزل في شأنها قرآن يتلى، ومع هذا قالت: "أَنَا أُفْقِرُ يَهُودِيَّتَكَ؟!" وهي تقصد صفية، وتعايرها بأنها كانت يومًا يهودية، والكلمة أغضبت النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا، عبَّر عنه في هجرها قرابة الثلاثة أشهر، حتى يئست ورفعت سريرها، ولكنه عفا عنها، ولم يطلقها، وفرحت فرحًا شديدًا، ومِن فرحها أهدت النبي جارية كانت تخبأها.

ولصفية مشهد آخر في الحجة المباركة -سيأتي معنا-.

هكذا كانت حياته مع زوجاته؛ حياة مفعمة بالحب والحنان، وحسن العشرة، فصلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أمهات المؤمنين.

المشهد الرابع:

يقصه صاحبه أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- فيقول: خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في حجَّتِه التِّي حجَّها، فلمَّا هَبَطْنا بَطْنَ الرَّوْحاءِ عَارَضَتْ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- امرأةٌ مَعها صَبِيٌّ لها فَسَلَّمَتْ عليهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَوَقَفَ لها، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، هذا ابنِي فُلانٌ، والذي بعثَكَ بِالحَقِّ ما زَالَ في خَنْقٍ واحِدٍ مُنْذُ ولَدْتُهُ إلى السَّاعَةِ -أوْ كَلِمَةً تُشْبِهُها-  فَأَكْسَعَ إليها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فبسطَ يَدَهُ فجعلهُ بينَه وبينَ الرَّحْلِ، ثُمَّ تَفَلَ في فيهِ، ثُمَّ قال: اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، ثُمَّ ناوَلَها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إِيَّاهُ، فقال: (خُذِيهِ، فَلَنْ تَرَيْ مَعهُ شيئًا يَرِيبُكِ بعدَ اليومِ إنْ شاءَ اللهُ -تَعالَى-).

قال أسامةُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: وقَضَيْنا حِجَّتَنا ثُمَّ انصرفْنا، فلمَّا نزلْنا بالروحاءِ، فإِذَا تِلكَ المرأةُ أمُّ الصبيِّ، فجاءَتْ ومَعها شاةٌ مَصْليَّةٌ فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، أنا أمُّ الصبيِّ الذي أتيتُكَ بهِ، قالتْ: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما رأيتُ مِنْهُ شيئًا يَرِيبُنِي إلى هذهِ الساعةِ. قال أسامةُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: فقال لي رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (يا أُسيمُ، ناولْنِي ذراعَها). قال: فامْتَلَخْتُ الذراعَ فناولْتُها إيَّاهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فأكلَها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ثُمَّ قال: (يا أُسيمُ، ناوِلْنِي الذراعَ) فامْتَلَخْتُ الذراعَ فناولْتُها إيَّاهُ فأكلَها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ثُمَّ قال: (يا أُسَيمُ، ناوِلْنِي الذراعَ)، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّكَ قد قلْتَ: ناوِلْنِي فَناوَلْتُكَها فَأكلْتَها، ثُمَّ قلْتَ: ناوِلْنِي فَناوَلْتُكَها فَأكلْتَها، ثُمَّ قلْتَ: ناوِلْنِي الذراعَ، وإِنَّما لِلشَّاةِ ذِرَاعَانِ، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (أمَا إِنَّكَ لَوْ أَهْوَيْتَ إليها ما زِلْتَ تَجِدُ فيها ذِرَاعًا ما قُلْتُ لكَ) (أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية).

- امرأة مِن عموم الناس، حتى يظهر مِن السياق أنها لم تكن معه في حجته، فهي قد سمعت به، فعارضته، أي: وقفت له في طريقه، فوقف لها وسمع مشكلتها، ومال إليها بكليته اهتمامًا بشأنها، وأسدى إليها المعروف، وحل لها مشكلتها، وهو في هذه الحال المشغلة، وحوله الناس ينتظرون، والذي يظهر أن الرضيع كان به مس من جن، وقد رقاه رسول الله، وما أعظمها من رقية، يحل مشكلة الكبير والصغير، ويبشرها ويهدِّئ مِن روعها: (خُذِيهِ، فَلَنْ تَرَيْ مَعهُ شيئًا يَرِيبُكِ بعدَ اليومِ إنْ شاءَ اللهُ -تَعالَى-).

هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لدرجة أن المرأة من شدة تأثرها به ذبحت شاة، وطبختها، وأهدتها لرسول الله ومَن معه مِن رفقائه في أثناء عودته من الحج، ويقبل هديتها تطييبًا لخاطرها، وحسن معاملة منه -عليه الصلاة والسلام-.  

ويلاطف أسامة حبه وابن حبه، فيصغِّر اسمه حبًّا وتألفًا له: (يا أُسَيمُ)، وهكذا كان يدعوه، أي: هذه عادته معه، والنفس تحب هذا وتألفه.

إنه لنبي عظيم كريم مع الصغير والكبير!

ويعلمه أن شأنه ليس كشأن سائر الناس، فقد تقع له المعجزات، أن يصير أمام أسامة أكثر من ذراعين للشاة الواحدة، معجزة وبركة لرسول الله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

المشهد الخامس:

موقف لعائشة -رضي الله عنها-، وما أدراكم ما عائشة بالنسبة لرسول الله؟ كيف وقد سئل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قالت عائشة -رضي الله عنها-: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجِّ، وَحُرُمِ الحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ فَلاَ)، قَالَتْ: فَالْآخِذُ بِهَا، وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمُ الهَدْيُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى العُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: (مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ؟) قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكِ؟) قُلْتُ: لاَ أُصَلِّي، قَالَ: (فَلاَ يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا(متفق عليه).

كان مِن هديه مخالفة المشركين وعاداتهم، وإظهار ذلك، وكان مِن أبرز المشاهد في ذلك؛ هذا المشهد الذي تقصه عائشة، وهو فعل العمرة في أشهر الحج، كانوا يرون ذلك مِن أفجر الفجور، وقد بدأ النبي بنفسه، فحج قارنًا، جمع بين العمرة والحج في أشهر الحج، وخيَّر أصحابه عند الميقات بفعلها وحثهم على فسخ الحج للعمرة لمَن ليس معه هدي عند "سرف"، الموقف الذى تقصه علينا عائشة، وأمر بالفسخ عند المروة، وكان مِن تقدير الله لعائشة أن تمنع منه؛ بسبب أنها جاءتها الحيضة وهي في الطريق إلى مكة عند هذا الموضع، وهنا تأتي هذه المعاملة الرقيقة من رسول الله، أن يلاطفها ويهدئ من روعها، ويواسها بكلمات عظيمة: (إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ) أي: الحيض، وانتِ لست نشازًا، سيصيبك حتما ما يصيبهن، فلا بأس عليك منه، ولا ضرر، ثم يحل المشكلة بأن يوجهها أن تفعل ما يفعل الحاج، إلا أمرًا واحدًا، وهو الطواف، وحينها لا تشعر بأسى ولا حزن، كلمات تنزل على القلب فتهدئه وتسليه، وتصبره،

وهذا من حسن عشرته، ومعاملته الحسنة الرقيقة، وصبره -عليه أفضل الصلاة، وأتم السلام-.

ويبلغ هذا المشهد ذروته في نهاية الرحلة النبوية المباركة، حينما يهم رسول الله بالعودة بعد أن أنهى حجته، وكلنا يعلم مدى حاجة الإنسان منا إلى العودة إلى دياره، وخصوصًا في رحلة شاقة كهذه؛ استغرقت من رسول الله إلى هذه اللحظة ثمانية عشر يومًا وليلة، وستأخذ ثمانية أيام إيابًا، ومع هذا كله حينما هم بالعودة، ليلة الأربعاء الرابع عشر مِن ذي الحجة، ليلة الحصبة، وقفت عائشة له، ولنتركها تروي ما حدث حينما حاضت، قالتُ له: إِنِّي كُنْتُ أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِحَجَّتِي؟ قَالَ: (انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ  وَلَا تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرِي). وفي روايةٍ: (فكوني في حجِّكِ فعسى اللهُ أن يرزقَكيها) ففعلتْ ووقفتِ المواقفَ حتى إذا طهُرتْ طافتْ بالكعبةِ والصَّفا والمروةِ، وقال لها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (قد حلَلْتِ من حجِّكِ وعمرتِك جَميعًا) فقالت: يا رسولَ اللهِ، إني أجدُ في نفسي أني لم أطُفْ بالبيتِ حتى حججتُ، وذلك يومَ النَّفرِ فأبتْ، وقالت: أَيرجعُ الناسُ بأجرَينِ وأرجعُ بأجرٍ؟ وفي روايةٍ: يَصدرُ الناسُ بنُسُكينِ، وأصدرُ بنُسُكٍ واحدٍ. وفي أُخرى: يرجعُ الناسُ. وفي روايةٍ: صَواحبي. وفي أُخرى: بعمرةٍ وحجَّةٍ، وأرجعُ أنا بحجَّةٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، فأرسلَها مع أخيها عبدِ الرحمنِ فأهَلَّتْ بعُمرةٍ من التنعيم.

وتأمل قولها: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ".

والله، إن هذا الوصف ليكفي فيما ترنو هذه المقالة الوصول إليه، فمع أنه قال لها: (قَدْ حَلَلْتِ مِن حجِّكِ وعُمْرَتِك جَمِيعًا)، أي: أنها قامت بعمرة وحجة قارنة، كما رجحه ابن القيم في الزاد؛ إلا أنها تريد عمرة مستقلة، كبقية أصحابه، وزوجاته، وقد يرى البعض في هذا تدللًا زائدًا، لكن كان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة، رفيقًا، يألف ويؤلف، عطل ركبه، وانتظر إلى أن تذهب فتعتمر عمرة مستقلة، ولم يتحرك إلا بعد أن قضت حاجتها ونهمتها، فنادى بالنفير، وحينها وجد صفية تقف على باب خبائها حزينة كئيبة، فقالَتْ صَفِيَّةُ: ما أُرَانِي إلَّا حَابِسَتَهُمْ. قالَ: (عَقْرَى حَلْقَى، أَوَما طُفْتِ يَومَ النَّحْرِ؟) قالَتْ: قُلتُ: بَلَى. قالَ: (لا بَأْسَ انْفِرِي).

صفية كانت حاضت يوم النحر بعد طواف الإفاضة، وظنت أنها ستؤخر مسيرهم في العودة؛ بسبب أنها لن تطوف طواف الوداع حتى تطهر، فقالت: "ما أُرَانِي إلَّا حَابِسَتَهُمْ".

وهنا يظهر حسن عشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أكد أنه سيحبس في مكة، وسيتأخر عن العودة إلى المدينة، إلى أن تطهر زوجته لتطوف، وهذا مقتضاه أنه سينتظر أيامًا وليالي حتى تطهر، وسأل فوجدها طافت طواف الإفاضة، فأخبر أن طواف الوداع يسقط للعذر، وهذا مِن تمام حسن خلقه وصبره وشفقته -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

المشهد السادس:

 كان مِن شفقته -صلى الله عليه وسلم- بشأن مَن كان معه مِن النساء، أنه أذِن لضعفة أهله، ومَن استأذنته من زوجاته، كسودة لثقلها، وأم سلمة لمرضها؛ أذن لهن بالبيتوتة في مكة ليلة المزدلفة، تقول عائشة: "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ، تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً -يقولُ القَاسِمُ: وَالثَّبِطَةُ: الثَّقِيلَةُ-، قالَ: فأذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَحَبَسَنَا حتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنَا بدَفْعِهِ. وَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- كما اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فأكُونَ أَدْفَعُ بإذْنِهِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِن مَفْرُوحٍ به" (متفق عليه).

وهذا مِن تمام الشفقة بهن، فكون الإنسان يشعر بمَن حوله، ويقدر ذلك، ويساعده على حل مشكلته، هذا أمر حسن، فما بالك أن تكون من أهلك: كأمك او أختك أو زوجتك؟! هذا يدل على حسن عشرة وخلق حسن، ويبدو -والله أعلم-: أن عائشة لما رأت أمورًا كزحام مثلًا، تمنت أن كانت فعلت كفعل سودة -رضي الله عنها-،

وأم سلمة بسبب مرضها هذا استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تطوف طواف الوداع مِن خلف الناس في صلاة الفجر، فأذن لها -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

المشهد السابع:

مشهد سؤالات النساء في حجته، واستفسارهن عن أشياء تخصهن، أو تخص أحد ذويهن، والحج مشقة، وأهله معه، ولا يتضجر، ولا يصد أحد عنه، ولا يضيق صدره مما يرى، ويجيب، ويوجِّه، ويعلِّم وينصح، فجاءته امرأة حسناء شابة تسأله والفضل ردفه، وكان شابًّا وسيمًا وضيئًا حسن الشعر، فجعلت تنظر إليه وطفق ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا الفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فدفع وجهه عن النظر إليها، فنظر مِن الشق الآخر فصرف وجهه مرةً أخرى، حتى قال أبوه العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني). فقالت المرأة: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) (متفق عليه).

ولا تدري مما تعْجَب في هذا المشهد؟!

هل مِن تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقربه مِن الناس ودنوه منهم، حتى تجترئ عليه فتاة في هذا المشهد الحافل بهذا السؤال وهذه الحال، أم من تفهّم النبي -صلى الله عليه وسلم- لنوازع الشباب، وما جبلت عليه النفوس الفتية؟! فيسارع بالتأديب اللطيف الذي يجمع الرفق والمودة، ولا يستثيره تكرر المشهد إلى العنف أو الغلظة، أم مِن حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في صرف عنق ابن عمه وقريبه دون المرأة؛ لأن الفضل يحتمل مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا تحتمله فتاة غريبة؟!

ومثله: أنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، أَلِهذا حَجٌّ؟ قالَ: (نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ) (رواه مسلم).

انظر إليه كيف يجيبها ويحفزها، ويحفز نساء الأمة مِن ورائها!

والله، إنه لخلق عظيم مِن صاحب الخلق العظيم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.

اللهم ردنا إلى دينك ردًّا جميلًا، وأصلح بيوت المسلمين، واهدِ رجالنا ونساءنا يا رب العالمين. اللهم آمين.