عِبَر من قصص الأنبياء (40)

  • 187

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حياة عيسى -عليه الصلاة والسلام-:

يُعد عيسى -عليه الصلاة والسلام- خاتمة أنبياء بني إسرائيل، ولم يكن نبيٌّ بعده إلا نبينا محمد -عليهما الصلاة والسلام-، وختم النبوة في بني إسرائيل بعيسى -عليه الصلاة والسلام- هو مراد قوله -تعالى-: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) (المائدة:46)، وذلك أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- بُعث نبيًّا خصيصًا لبني إسرائيل؛ لقوله -تعالى-: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آل عمران:49)، وبهذا يتبين لنا خطأ وانحراف حملات التنصير المعاصرة التي تستهدف غير بني إسرائيل مِن الأقوام والشعوب والأديان والملل! بينما دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن الله -عز جل- عالمية نطاقها: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف:158).  

ولأهمية التوحيد ومركزيته فقد كرر المسيح -عليه الصلاة والسلام- بيان عبوديته لله -عز وجل-، فعند مولده بيّن عبوديته لله -تعالى-: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم:30)، ودعا بني إسرائيل لعبادة الله وحده (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة:117)، وعبودية المسيح لله -عز وجل- لا تزال الأناجيل المعاصرة -برغم تضاربها وتعارضها وتحريفها- تشير في أجزاءٍ منها إلى عبودية المسيح لربه الله -عز وجل-، وتخلو مِن نص صريح على ادعائه الألوهية.

ومِن أمثلة نصوص الإنجيل التي تشير إلى عبودية وبشرية المسيح: "ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلّمكم بالحق الذي سمعه مِن الله" (يوحنا 8/ 40).

ولذلك كانت شهادة حواريي عيسى -وهم أنصاره- بأنهم مسلمون لله -عز وجل- ضد مَن كفر بدعوة عيسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52).

وقد أيد الله -عز وجل- المسيح -عليه الصلاة والسلام- بعددٍ مِن المعجزات: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:49)، وهذه المعجزات الربانية لعيسى -عليه السلام- تدور على تمكين الله -عز وجل- له على إحياء الموتى وبث الحياة في الجمادات وشفاء المرضى الذين لا يُعرف لهم دواء، والإخبار عن أسرار بيوتهم وما فيها مِن مؤنة وقوت، وذلك لتكون معجزته -عليه الصلاة والسلام- مِن جنس ما برع فيه أهل زمانه الذين اشتهروا بالطب والسحر، ولكنهم مع تفوقهم في ذلك يعجزون عن إحياء الموتى وبث الروح في الجمادات وردّ البصر لمَن وُلد أعمى، وهو الأكمه، أو شفاء مَن بجلده برص وبياض.

ومِن العِبَر المهمة للدعاة في تجانس المعجزات الربانية للأنبياء مع طبيعة المجتمعات التي يبعثون لها: ضرورة تسلح الدعاة بالعلم والحكمة، والمعرفة المكافئة لطبيعة العصر والزمان لإبطال شبهات الزائغين، وإرشاد الحائرين بالدليل والحجة الواضحة، وهداية المؤمنين للصراط المستقيم، وبذلك تتحقق وظيفة العلماء والدعاة بوراثة الأنبياء في دعوة البشرية لسبيل الهداية والرشاد (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42).

وبهذا المقال اكتملت سلسلة العِبَر مِن قصص الأنبياء بفضل الله -عز وجل- وتوفيقه، وأسأله -سبحانه- القبول والمغفرة عن أي خللٍ أو تقصيرٍ.