ذكريات (1)

  • 928

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد يتساءل البعض أو يستنكر علينا تغير موقفنا مِن جماعة الإخوان، وتوصيفنا لها؛ وبالتالي طريقة التعامل معها، وأنا أقول:

أولًا: بالفعل قد تغيَّر موقفنا منهم بعد أن شهدنا ما لم نكن قد شهدناه، وعلمنا ما لم نكن نعلمه مِن قبل، رغم أننا كنا في اختلافٍ شديدٍ منذ الانفصال بيننا وبينهم عام 1979م، ونشأة المدرسة السلفية التي اختارت اسم: "الدعوة السلفية"؛ مِن أجل تحقيق الشمول والتعبير عن مساحة أوسع مِن تفكيرنا الإصلاحي الذي لم يَقبل في أي مرحلةٍ مِن مراحِلِه فكرة الصدام وتخريب المجتمع أو البلاد، بغرض إقامة نظام إسلامي! -كما تَصوَّر البعض ذلك فخَرَّبوا ودمَّروا أنفسهم مع مجتمعاتهم، أو دمَّروا أنفسهم وحدهم، كما هو مُشاهَد في البلدان حولنا؛ عافاهم الله ورزقهم الأمن والاستقرار والهداية-.

رغم شدة الاختلافات بيننا منذ ذلك التاريخ كان توصيفنا للجماعة بأنها "خيرٌ فيه دَخَن"، بخلاف جماعة التكفير مثلًا، أو "التوقف والتبيُّن"؛ فقد كنا نصنفها بأنها جماعات بدعة وضلالة، ولكن تغير بالفعل توصيفنا لجماعة الإخوان بعد أن شهدنا الآثار الفظيعة لسيطرة الاتجاه القطبي النابع مِن التنظيم الخاص القديم على الجماعة، وقد كنا نظن أن قطبية بعض الإخوان تختلف كثيرًا عن قطبية "عبد المجيد الشاذلي"، صاحب فكر التوقف والتبيُّن، ومؤلف كتاب "حدّ الإسلام" الذي بثَّ فيه هذا الفكر المنحرف؛ فضلًا عن قطبية "شكري مصطفى" التي لفظها الإخوان أنفسهم عند ظهورها داخل السجون؛ إلا أننا لم نكن نعلم أن الفريق القطبي الذي تربى على يد "سيد قطب" وخالَف "الهضيبي" بعد موت "سيد قطب" في موقفه من جماعة "شكري مصطفى"، وكانوا يرون عدم التبرؤ منهم، وأن "شكري" رجل خَيِّر وإن أخطأ التعبير، وتولى الأستاذ "الهضيبي" الرد على ذلك وأصدر كتاب: "دُعَاة لا قُضَاة" -أو أُلِّف بإشرافِه- والذي مَثَّل تيارًا معتدلًا في قضية التكفير داخل الجماعة في السبعينيات وما بعدها، وكان بداية التغيُّر الشديد نحو فكر التكفير المستتر هو تولي "مصطفى مشهور" مسئولية المرشد العام والذي اهتم أشد الاهتمام بـ "الأُسَر" الإخوانية التي تَشَرَّبَت الفِكر الذي يمثِّل التنظيم الخاص الذي كان أحد أبرز أعضائه: "مصطفى مشهور".

حقَّقَت هذه المجموعة في انتخابات الجماعة سنة 2005م أغلبية في مجلس شورى الإخوان، وفي مكتب الإرشاد، ظنَنَّا وقتَها أنها سوف تحد مِن التوجُّه "الليبروإسلامي" الذي تبَنَّته الجماعة عبر مدة طويلة، وبَلَغ مبلغًا لا يُقبل، وللأسف لم يكن ظنُّنَا في محله؛ فقد ظل التوجه المُعلَن المخاطِب للغرب على نفس الطريقة "الليبروإسلامية" -بل أشد-، في حين كان البناء الداخلي يُبنى على الفكر القطبي القائم على الحكم بـ"جاهلية المجتمع"، المصطلح الذي تفاوتت درجات فهمه؛ بين التكفير لكل أفراده كما فعل "شكري مصطفى"، وبين اعتبار المجتمعات المسلِمة -المُسَمَّاة عندهم بالجاهلية- دار كفر، ينقسم فيها الناس إلى ثلاث طبقات:

1- إلى مسلمين بلا شبهة.

2- كفار بلا شبهة.

3- طبقة مُتَمَيِّعه كبيرة لا نشغل أنفسنا بالحكم عليها، كما فعل "محمد قطب" -وإن لم يصرِّح بلفظ: "التوقف والتبين" الذي هو حقيقة هذا الكلام- كما فعل "عبد المجيد الشاذلي" وتلميذه: "أسعد البيك" في سيناء؛ مما أدَّى إلى نشر الفكر المنحرف في هذه المنطقة الحدودية الحساسة للأسف الشديد.

وكذلك مجموعة مدينة المنصورة التي سَمَّت نفسَها: "الجبهة السلفية" مُحاوِلة استغلال الاسم المقبول الذي له الأرضية الكبيرة، ولتشويه السلفية ومحاولة إعلان انقسامها لمخاطبة عواطف طبقة كبيرة ممَن التزموا عبر القنوات الفضائية دون فهم المنهج السلفي وقضاياه.

وتبَيَّن لنا بعد ذلك أن "حازم صلاح أبو إسماعيل" مِن هذه الطائفة أيضًا، وعندما حضر في مؤتمر انتخابي بالإسكندرية -وبجوار منزلي- كان معه على المنصة "عبد المجيد الشاذلي"، و"خالد سعيد" -المتحدث باسم ما سُمِّي باسم: "الجبهة السلفية" زورًا وبهتانًا-، ولما سألتُه بعد المؤتمر: كيف تقدِّم عبد المجيد الشاذلي صاحب فكر التوقف والتبين؟! قال: أنا لا أعرفه! فقلت له: صاحب كتاب "حد الإسلام"؟ قال: لا أعرف الكتاب ولم أقرأه؛ إنما هو رجل كان صديقًا لوالدي -يعني الشيخ صلاح أبو إسماعيل-، وكان يزورنا في البيت فدعوته لحضور المؤتمر فحضَر!

وكان ما عَلِمناه بعد ذلك أن عبد المجيد الشاذلي وشكري مصطفى كلاهما مِن الأسرة الخاصة (أي المجموعة التربوية الخاصة) لسيد قطب!

حصَل هذا الفريق على الأغلبية في انتخابات مكتب الإرشاد ومجلس الشورى سنة 2005م، وخلال خمس سنوات تَمَكَّن هذا الفريق مِن طرد كل مَن لا يدين لفكرهم ممَن تربى في الجماعة الإسلامية في السبعينيات، وانضم للجماعة عند انقسام 1979م، ممَن كان لديه بعض الانضباط في قضايا التكفير تَأثُّرًا بالمنهج السلفي الذي كانت تُدَرِّسه الجماعة الإسلامية في 76، و77، و1978م، إلى تاريخ الانفصال، والذين كان منهم: عبد المنعم أبو الفتوح، وإبراهيم الزعفراني، وحامد الدفراوي، وخالد داود.

ولما اخترنا "أبو الفتوح" في المرحلة الأولى مِن الانتخابات؛ فرارًا مِن التمكين للجماعة إذا اخترنا مرسي المُبايِع للمرشد -ولا ترى الجماعة حل هذه البيعة حتى لو صار أحد أفرادها رئيسًا للجمهورية-، وواجهتُ خيرت الشاطر بهذا الإشكال، لمَّا طرحتُ عليه في جلسة التعارف على البرنامج الانتخابي لمرشحي الرئاسة: أن هناك تعارضًا خطيرًا لا بد مِن حَلِّه قبل أن نقبل بتأييد فردٍ مِن الجماعة في الرئاسة؛ لأننا لا نريد ولا نقبل بيعة المرشد، وظل "عبد الرحمن البَرّ" -مفتي الجماعة كما يسمونه- يجادِل مجادلة شديدة في عدم التعارض، وأنها مثل أن الدكتور بديع عضو نقابة البيطريين تحت رئاسة فرد آخر وهو المرشد فلا تَعَارُض! قلت: فَرقٌ كبير؛ لأن رئاسة الجمهورية تختلف قطعًا.

وما أنهى المناقشة العقيمة إلا "خيرت الشاطر" بنفسه حين أقر بالتعارض، وأنهم لم يبحثوا هذه المسألة مِن قبل وسوف يبحثونها، واقترحت عليه أحد حَلَّين: إما أن يَرُدَّ المرشِد للمرشَّح الرئاسي بيعتَه -وهو ما اختاروه شكليًّا لا حقيقةً للأسف-، وإما أن يُكَفِّر المرشَّح عن يمينه -لأن البيعة الخاصة أقصاها أن تكون بمنزلة اليمين؛ يكفي في التحلل منها كفارة اليمين- فرفض ذلك أشد الرفض؛ لأنه كفيلٌ بهدم الجماعة تمامًا؛ لكسر أقوى رابطة عندهم جعلوها بمنزلة البيعة السياسية كبيعة الخلافة؛ مَن نَقَضَها فقد خلع ربقة الإسلام مِن عُنُقِه!

وفي أثناء جلوسنا مع فريق "أبو الفتوح" أثناء التعرف على برنامجه الانتخابي فاجَأَنا أحدُهم بأن القيادة الحالية للإخوان تستبطن تكفير المجتمع والجهاد ضده! فأنكرنا ذلك على حدِّ علمنا في ذلك الوقت، وقلنا: هل هذا مِن أجل أنكم طُرِدتم من الجماعة تقولون ذلك؟! فأكَّدُوا على ما طَرحه الرجل، وأنها الحقيقة!

لم نقتنع بذلك مِن داخلنا، إلى أن وقعت الوقائع وتبينت الحقائق، وظهر الخطاب التكفيري العنيف الذي يرش بالدم مَن رش مرسي بالماء، وأن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار! وأضعاف ذلك.

وبعد مظاهرات 30 يونيو وخروج الملايين في أنحاء الجمهورية لرفض حكم الإخوان -وهذه حقيقة عَلِمناها مِن إخواننا في كل المحافظات في ليلة 2/7/2013م أي مساء 1/7/2013م- بعد أن جلسنا ساعات طويلة لإعداد بيان من "الدعوة السلفية" تُطالِب فيه الرئيس بانتخابات رئاسية مبكرة؛ لتلافي الحرب الأهلية واستجابة لرغبة الملايين التي خرجت، عُدتُ إلى المنزل بعد الواحدة ليلًا فوجدت الأخ الذي كان قد أخبرنا بأن القيادة الحالية للإخوان تستبطن تكفير المجتمع والجهاد ضده منتظرًا على "محطة الأتوبيس"، وطلب مني الجلوس في هذا الوقت المتأخر من الليل؛ فقلت له: تفضل. ثم قال لي: الإخوان أقرب إليكم من كل أَحَد؛ فلا تتركوهم وقِفوا بجانبهم! قلت له: ألم تقل لي -منذ سنة تقريبًا- أن القيادة الحالية للإخوان تستبطن تكفير المجتمع والجهاد ضده؟ قال: للأسف هذه هي الحقيقة، ولكنهم أيضًا أقرب إليكم من غيرهم؛ قلت: لا، بل عامة الناس ومنهم الجيش والشرطة أقرب إلينا ممَن يكفر المجتمع ويرى القتال ضده! ولذلك رفضنا تغيير موقفنا ذلك.

وللأسف، وقعت الوقائع التي أسفرت عن حقيقة مذهب القيادة الإخوانية، ومِن هنا كان تغيُّر موقفنا تغيُّرًا مبنِيًّا على معرفتنا بالحقيقة التي ما زالوا ينكرونها إلى الآن، ولا حول ولاقوه إلا بالله.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.