في الموت عزاء وموعظة، لا شماتة ولا غلو!

  • 1254

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فحَدَثُ الموت حدَثٌ جَلَلٌ عظيم، يهز النفس الإنسانية مِن داخلها، بصرف النظر عن أي اعتباراتٍ مِن سِنٍّ أو عَمَلٍ أو وظيفةٍ أو اتفاقٍ أو اختلاف؛ لأنه يُذَكِّر الإنسان بضعفه وعجزه وحتمية نهايته، مما تدل عليه كلمة المؤمنين: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"؛ فالخلق كلهم مِلكٌ لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وكلهم إليه راجع، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا؛ ولذلك يتميز سلوك المسلم عند مشاهدة هذا الحَدَث بالاتعاظ والتدبر والتذكر، وهو كذلك يتذكر قدرة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعِزَّتَه، وفقر الإنسان وحاجته؛ فهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملك موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.

فالموت كربٌ بِيَد سواكَ لا تدري متى يغشاك، وهو نهاية كل حي: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185)، وقد قال -سُبْحَانَهُ-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:57)، وقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88).

ووالله إنها لَمعَانٍ تُوقِظ قلبَ الإنسان مِن الغفلة، وتُذَكِّره سرعة مرور العمر والزمان، خاصة في آخر الزمان، كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن مِن أشراط الساعة أن يتقارب الزمان فقال: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ،) (متفق عليه)، ونحن نُحمَل رغمًا عنا لهذه اللحظة المحتومة التي هي بقَدَر الله وعِلْمِه وحدَه، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا) (آل عمران:145)، وقال -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (لقمان:34).

ولو تأملنا النصوص الواردة في الكتاب والسُنَّة عن الموت وكثرتها؛ لَوَجدناها بالفعل تُحيي القلب الإنساني وتدفعه ليتعبد بأنواع العبادات القلبية مِن: الإيمان بالقَدَر، والإيمان باليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء، والصبر على مصائب الدنيا، وترك الجَزَع، والرضا عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وكمال الافتقار إليه -عَزَّ وَجَلَّ-، وغير ذلك مِن أعمال القلوب واعتقاداتها الإيمانية.

هذا فيما يخص الإنسان في نفسه عند حَدَث الموت؛ ثم هو يُعَزِّي أهلَ الميت، يذكِّرهم بالصبر والاحتساب، وهذا مِن باب النصيحة للخَلق الذين يحب لهم الخير، والهدى والإيمان.

وليس مِن سلوكه الشماتة أو الفرح لآلام الناس؛ فإن الرحمة التي في قلب المسلم للخَلق تَأْبَى مثل هذا الشعور في مثل هذه اللحظات؛ فليَحذر كلُّ واحدٍ منا على نفسه أن يوجَد في قلبه ما لا يحبه الله -سُبْحَانَهُ-.

وسلوك الشماتة في الموت راجعٌ إلى شدة الجهل، والغرور، والقسوة والغفلة التي استعاذ منها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعائه: (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ) (رواه ابن حبان والحاكم، وصححه الألباني).

وكذلك سلوك السب والشتم للأموات الذي يرتكب فيه فاعله ما نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه في قوله: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) (رواه البخاري).

وأَشَدُّ ذلك السبُّ بالكفر للمسلم، فهو ذنب عظيم كبيرة مِن الكبائر، كالقتل في بشاعته وإثْمِه، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) (رواه البخاري)، وخصوصًا إذا كان على طريقة الخوارج مِن إنزال الآيات والأوصاف التي ذكرها الله في الكافرين على المسلمين دون مراعاة الفرق الهائل، وأَثَرِ أعظم كلمة يحبها الله -عَزَّ وَجَلَّ-: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وكذلك مَن كان لا يعتبر استيفاء الشروط وانتفاء الموانع في تكفير المُعَيَّن -الذي هو منهج أهل السُنَّة والجماعة-.

وأَبْشَعُ مِن ذلك -مِن جهة المشاعر-: الحكم بالنار على شخصٍ مُعَيَّنٍ، بل والخلود فيها! فإذا كان المسلم لا يَجزم بجَنَّةٍ ولا نارٍ لِمُعَيَّنٍ -ولو كان قبل ذلك كافرًا أو مُسلِمًا-؛ لأنه لا يدري ما مات عليه ولا ما سبق لحظة الغرغرة، مع أن الذي تبيَّن لنا مِن ظاهر الحال أن المشركين مِن أصحاب الجحيم، وأن المؤمنين مِن أصحاب الجنة، ومع ذلك نتوقف عن الجزم بالحقيقة؛ لاحتمال أن يكون الظاهر يخالفه الباطن -الذي لا يعلمه إلا الله- في اللحظات الأخيرة في حياة الإنسان، إلا مَن نَصَّ القرآن والسُنَّة على الشهادة لهم بالجنة أو بالنار.

وهذا الأمر ينطبق أيضًا على الطرَف الآخر: وهو الجَزْم بالجَنَّة لشخصٍ بعينه لم يَثبت فيه نَصٌّ، بل وبدرجاتها العالية، وهذا مِن مسالك الغُلُوِّ التي حَذَّر منها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ) (رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني).

ومِن هذا الغُلُوِّ: لَعنُ المخالفين ومَن وَافَقَهُم؛ انتصارًا للميت الذي يُحِبُّه، وما أحسن ما نُقل عن الإمام أحمد حين سأله ابنه عن حُب الحَجَّاج بن يوسف الثقفي، المُبِير المُهْلِك كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) (رواه مسلم)، واتفق العلماء على أن المُبِير هو الحَجَّاج، فقال: "وهل يُحِبُّ الحجاجَ أَحَدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر؟! فقال له: فلمَ لا تلعنه -أو: هل تلعنه-؟ قال: "وهل سمعتَ أباك يلعن أحدًا؟" (انتهى). فقد حَذَّرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن اللعن فقال: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

دَعوا الخصومات يقضي فيها رب العالمين وأحكم الحاكمين -عالم الغيب والشهادة- يوم القيامة: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس:93).

نسأل الله أن يرحم جميع أموات المسلمين، وأن يغفر لهم، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.