عِبَر من قصص الأنبياء (37)

  • 213

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

زكريا -عليه الصلاة والسلام-:

ثبتت نبوة زكريا -عليه السلام- بالقرآن الكريم، وهو مِن أواخر أنبياء بني إسرائيل، هو وابنه يحيى، وعيسى -عليهم الصلاة والسلام-، وزوجة زكريا هي خالة عيسى، قال -تعالى-: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (الأنعام:85)

كان زكريا -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل، وكان متزوجًا مِن أخت مريم بنت عمران التي كلّفه الله -عز وجل- برعايتها عندما كانت فتاة صغيرة لتنفيذ نذر أمها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:35-37).

ولم يكن لزكريا -عليه الصلاة والسلام- ذرية؛ لأن زوجته كانت عاقرًا لا تلد، فلما رأى إحسان الله -عز وجل- لمريم برزقها فاكهة الصيف في الشتاء والعكس؛ هنالك رغب زكريا -عليه الصلاة والسلام- بأن يطلب الولد من ربه على وجه الإعجاز بعد أن انقطع الأمل من الإنجاب بالحالة الطبيعية؛ لكونه كبر في السن وضعف بدنه، ولكون زوجته عاقرًا، وقد كان زكريا -عليه الصلاة والسلام- كثير الدعاء لربه مِن قبل، والذي كان يستجيب له (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38)، وقال -تعالى- عن دعاء زكريا ربه: (كهيعص . ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا . قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم:1-4).

أما الغاية مِن طلب الولد والذرية فهي: أن يحمل مِن بعده وراثة النبوة والدين ورعاية بني إسرائيل خوفًا مِن تقصير قادتهم، والذين تكرر منهم العصيان والكفر وقتل الأنبياء (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:5-6)، وليست الوراثة هنا وراثة المال والثروة، فزكريا -عليه الصلاة والسلام- كان نجارًا كما في صحيح مسلم، وأخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأنبياء لا يورثون (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ) (متفق عليه)؛ ولذلك جعل الوراثة وراثة آل يعقوب، وبين زكريا وآل يعقوب مئات السنين.

ومِن أهم العبر في قصة زكريا -عليه الصلاة والسلام-: حرص الأنبياء على استمرار حالة الإصلاح في الأجيال القادمة والمستقبل؛ ولذلك طلب أن يرزقه الله ولدًا صالحًا، وعلى شباب الإسلام اليوم الاهتمام بالتخطيط للمستقبل، والحرص على دوام الإصلاح وعدم ضياع الجهود التي قامت في نشر التوحيد والسنة، وأن الدعاء الخالص لله -عز وجل-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) هو مِن الأسباب الشرعية، ولا يتعارض مع الأخذ بالأسباب الدنيوية، وأن أتباع الأنبياء يجمعون السبب الشرعي والسبب الدنيوي في نصرة دين الله -عز وجل-، وأن الدعاء الخالص لله -عز وجل- يمكن له أن يعطل السنن الكونية في كرامةٍ للمؤمنين.

وأن أتباع الأنبياء يحذرون مِن دعاء غير الله كما يفعل كثير مِن جهلة المسلمين، فيطلبون الولد والرزق والشفاء مِن الأموات والقبور، وهو خلاف شرع الله وسنة الأنبياء جميعًا.

ومِن العِبَر البارزة في قصة زكريا -عليه الصلاة والسلام-: أهمية ذكر الله -عز وجل- لأتباع الأنبياء، فإنه لما بُشّر بالولد طلب من ربه أن يعطيه آية معجزة تمهد لمعجزة ولادة ابنه (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (آل عمران:41)، فكان زكريا -عليه السلام- يعجز عن الحديث العادي مع كثرة ذكره ربه في هذه الأيام الثلاثة.