البكاء عند قراءة القرآن أو سماعه

  • 232

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال النووي -رحمه الله-: "البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين".

وقد أثنى الله -عز وجل- على أنبيائه وصالحي عباده بذلك، فقال -سبحانه وتعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58)، وقال -تعالى-: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:107-109)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) (المائدة:83).

وما ذكرهم الله في كتابه ونوه عنهم إلا للتأسي بهم، ولقد كان البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه شعار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وخيرة السلف -رضوان الله عليهم-.

ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَأْ عَلَيَّ) قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) (النساء:41)، قَالَ: (أَمْسِكْ) فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.

قال ابن بطال: "إنما بكي -صلى الله عليه وسلم- عند تلاوة هذه الآية؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية إلى شهادته على أمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء".

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "والذي يظهر لي أنه بكى؛ لأنه عَلم أنه لابد أن يشهد عليهم بعلمهم، وعملهم قد لا يكون مستقيمًا، فقد يفضي إلى تعذيبهم".

وأخرج عبد الرزاق بسنده عن قيس بن أبي حازم قال: "كان عبد الله بن رواحة واضعًا رأسه في حجر كامرأته فبكى، فبكت. فقال ما يبكيك؟ قال: رأيتك تبكي فبكيت! قال: إني ذكرت قول الله -عز وجل-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) (مريم:71)، فلا أدري أأنجو منها أو لا؟".

وعن نافع قال: "كان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد:16)، بكى حتى يغلبه البكاء.

وعن عمر -رضي الله عنه- أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وفي رواية: "أنه بكى حتى سمعوا بكاءه مِن وراء الصفوف".

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ البُكَاءُ، قَالَ: (مُرُوهُ فَيُصَلِّي) فَعَاوَدَتْهُ، قَالَ: (مُرُوهُ فَيُصَلِّي، إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) (متفق عليه).

وعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق فجعلوا يقرأون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "هكذا كنا".

وعن الزهيري أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قال: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء:205-207).

ثم يبكي وينشد:

نهارك يا مغرور سـهـو وغـفـلة                    وليـلـك نـوم والــردى لـك لازم

تُسرُ بما يـفـنى وتـفـرح بالـمنُى                    كما سُر باللذات في الليل حـالم

وتسعى إلى ما سوف تكره غبه                     كـذلـك في الدنيا تكون الـبهـائم