يا أمة الإسلام عودوا إلى القرآن (5)

  • 224

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).

وإنما كان القرآن الكريم أخص معجزات سيد الأولين والآخرين لأسبابٍ ثلاثةٍ:

أحدها: أن معجزة كل نبي توافق الأغلب مِن أحوال عصره، والشائع المنتشر في ناس دهره؛ لأن موسى -عليه السلام- لما بُعث في عصر السحرة، خُص من فلق البحر، وقلب العصا حية ما بهر كل ساحر، وأذل كل كافر، وبعث عيسى -عليه السلام- في عصر الطب، فخص مِن إبراء الزمني، وإحياء الموتى، ما أدهش كل طبيب، وأذهل كل لبيب.

ولما بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر الفصاحة والبلاغة، خص القرآن في إيجازه وإعجازه، بما عجز عنه البلغاء، وتبلد فيه الشعراء، ليكون العجز عنه أشهر، والتقصير فيه أشهر، فصارت معجزاتهم، وإن اختلفت متشاكلة المعنى، متفقة العلل.

والثاني: أن المعجزة في كل قوم بحسب أفهامهم، وعلى قدر عقولهم وأذهانهم، وكان في بني إسرائيل من قوم موسى وعيسى بلادة وغباوة؛ لأنهم لم ينقل عنهم ما يدون مِن كلام مستحسن، أو يستفاد من معنى مبتكر، وقالوا لنبيهم حين مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف:138)، فخصوا بالإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم.

والعرب أصح الناس أفهامًا وأحدهم أذهانًا، قد ابتكروا مِن الفصاحة أبلغها، ومِن المعاني أعذبها، ومِن الآداب أحسنها، فخصوا مِن معجزة القرآن بما تجول فيه أفهامهم، وتصل إليه أذهانهم؛ لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها، ويوافق فهمها.

والثالث: أن معجزة القرآن أبقى على الأعصار، وأنشر في الأقطار مِن معجزة يختص بحاضره، أو يندرس بانقراض عصره، وما دام إعجازه فهو أصح، وبالاختصاص أحق.

ولقد أُيِّدَ نبينا -صلى الله عليه وسلم- بمعجزاتٍ كثيرةٍ فاقت جميع الأنبياء، ولكن أعظم المعجزات هي معجزة القرآن، ونقتصر في إعجاز القرآن على أربعة أوجه:

الوجه الأول: فصاحته الرائعة، وبلاغته الموفقة، وجزالته الفائقة.

الوجه الثاني: إخباره بالمغيبات.

الوجه الثالث: الإعجاز بالتحدي.

الوجه الرابع: إخباره بالآيات الكونية الموافقة للحقائق العلمية.

أما الوجه الأول:

فهو فصاحته الرائعة، وبلاغته الموفقة وجزالته الفائقة، حتى تسمع الكلمة الواحدة منه تجمع معاني كثيرة، مع عذوبة إيرادها، وجزالة مساقها، وصحة معانيها، مثل قوله -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل -وكان مِن أشد الناس على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم-: "إن رب محمد لفصيح!".

وحُكِيَ أن الأصمعي سمع جارية من العرب، فتعجب مِن فصاحتها، فقالت: "وهل بعد قول الله تعالى فصاحة، حيث قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)؛ فإنه جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين.

ومِن ذلك قوله -تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:91).

حُكِيَ أن أعرابيًّا لما سمعها سجد، فقيل له: لِمَ سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحته.

ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44)، فيها مِن الجناس والطباق والبديع ما يعرفه أهل اللغة.

الوجه الثاني: إخباره بالمغيبات:

فمن ذلك: قوله -تعالى-: (الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ . لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 1-5)، نزلت هذه الآية الكريمة بمكة، وقد غلبت الفرس الروم، وفرح بذلك المشركون، وحزن المسلمون؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب، وأما الفرس فلم يكونوا أهل كتاب؛ فهم أشبه بمشركي مكة، فنزلت هذه الآية الكريمة تخبر بأن الروم سوف ينتصرون في بضع سنين –والبضع: مِن ثلاثة إلى تسعة- وتحقق انتصار الروم بعد سبع سنين كما أخبر الله -عز وجل-، ثم تحقق بعد ذلك كذلك انتصار المسلمين وفرحهم بفتح هذه البلاد، وهو قوله عز وجل: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5).

ومن ذلك قوله -عز وجل-: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45)، وسورة القمر مكية، والمسلمون بمكة كانوا مستضعفين، يعانون أشد ألوان العذاب، وتحقق هذا الوعد الصادق في يوم بدر -يوم الفرقان يوم التقى الجمعان- فهزم الجمع وولوا الدبر.

ومن ذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (الفتح:28).

ولم تمضِ على هذه البشرى أيامًا طويلة، حتى وجد المسلمون الجزيرة العربية كلها تحت أقدامهم، ثم فتح المسلمون البلاد شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حتى استضاء أكثر المعروف مِن الأرض بدعوة الإسلام.

الوجه الثالث: الإعجاز بالتحدي:

وقد تحدى الله -عز وجل- العرب البلغاء الفصحاء، أن يأتوا بمثل القرآن، ثم تحداهم بعشر سور من مثله، ثم تحداهم بسورة واحدة.

قال القرطبي: "فلو أن نبيًّا ادَّعى أنه رسول الله، واستدل على صدقه بأن قال لقومه: آيتي أن لا تقدروا اليوم على القيام، فكان ذلك؛ فهذا دليل صدقه، فإن قال قائل: لعله قد عورض ولم ينقل إلينا، قيل: بل نقل ما عورض به، فظهر فيه العجز وبان فيه النقص حتى فضحه ركاكة لفظه، وسخافة نظمه".

وفي قوله -عز وجل-: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (البقرة:24)، إعجاز كذلك؛ إذ أخبر العليم الخبير أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثل القرآن مبالغة في التحدي، فقد مضى على نزول القرآن العزيز أربعة عشر قرنًا مِن الزمان والتحدي قائم، وأعداء الإسلام يكيدون له ليل نهار، ولكنهم عاجزون عن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن.

الوجه الرابع: إخباره بالآيات الكونية الموافقة للحقائق العلمية:

فمن ذلك قوله -عز وجل-: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11)؛ فقوله: (وَهِيَ دُخَانٌ)؛ أي: وهي مكونة مما يشبه الدخان، ومن المسلَّم به في علم الفلك أن مجرتنا لا تتكون فقط من بلايين النجوم فحسب، ولكنها تحتوي أيضًا على كميات كبيرة من الغاز والغبار، وهو المادة الأولية التي تتكون منها النجوم.

ومن ذلك: قوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام:125)، ومِن المعلوم أيضًا أنه كلما ارتفعنا في طبقات الجو العليا تقل نسبة الأكسجين، وهذا يعني أن الذي يصعَّد في السماء يختنق من قلة نسبة الأكسجين، فمن أين عرف ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أربعة عشر قرنًا مِن الزمان؟

ومِن ذلك قوله -تعالى-: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) (النمل:88)، وهذه أعظم الآيات الدالة على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي أن هذا الكتاب إنما هو كلام الله، ليس كلام البشر؛ وذلك لأن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة، والناظر إلى الجبل القريب منه يحسبه ساكنًا جامدًا لا يتحرك، أما الحقيقة التي يستيقنها رجل الفضاء، أن هذه الجبال تتحرك من علٍ، تمر مر السحاب، فتبارك الذي أحاط بكل شيء علمًا.

وهذه مِن أعظم الآيات الدالة على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي أن هذا الكتاب إنما هو كلام الله -عز وجل-، وليس كلام البشر؛ وذلك لأن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة، والناظر إلى الجبل القريب منه يحسبه جامدًا لا يتحرك، أما الحقيقة التي يستقيها رجل الفضاء أن هذه الجبال تتحرك مِن عل، تمر مر السحاب، فتبارك الذي أحاط بكل شيءٍ علمًا.

فهذه جملة مختصرة من إعجاز القرآن، وهو أعظم معجزات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.