عِبَر من قصص الأنبياء (33)

  • 230

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أ- يونس -عليه الصلاة والسلام-:

في قصة يونس -عليه السلام- عددٌ مِن العِبَر المهمة بالرغم مِن قصرها، وقصة يونس -عليه السلام- تعرضت للتحريف عند كتبة التوراة مِن اليهود، فجعلوا منه نبيًّا عنصريًّا يرفض دعوة أهل نينوى الأشوريين!

بينما القرآن الكريم والسُّنة النبوية لا يذكران إن كان أهل نينوى أشوريين أو مِن بني إسرائيل؛ إلا أنهما ينصّان على أنّ يونس نبي مِن ذرية إبراهم -عليه السلام-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأنعام:84-86)، وجاء ذكر يونس -عليه الصلاة والسلام- في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عداس في الطائف، حين قال له عداس: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِن بلد الرجل الصالح يونس بن متّى" (السيرة النبوية لابن هشام)، وقد كانت نينوى بلدة كبيرة وسكانها خلْق كثير (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات:147)، وهذا فيه إشارة إلى أن جزيرة العرب وما حولها هي محل بعثة الأنبياء، ويعضد ذلك أنه قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن موسى ويونس -عليهما الصلاة والسلام- قد جاءا إلى مكة حاجّين ملبيين.

ومِن العِبر المهمة في قصة يونس -عليه الصلاة والسلام-: تدبر عظم قدرة الله -عز وجل- وحكمته البالغة في تسيير الأمور، ورحمته الواسعة في تدبير أمور العباد، ولطفه البالغ بتوصيل المنافع ودفع المضار بما لا يخطر على قلب ولا يتوقعه عقل، فهذا يونس -عليه الصلاة والسلام- يدعو قومه لعبادة الرحمن وحده كثيرًا، لكنهم يرفضون ويصرّون على كفرهم حتى أمَر الله -عز وجل- بعقابهم وإهلاكهم: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:96-98).

فقوم يونس استحقوا العذاب بكفرهم وعنادهم، ولما أخبرهم نبيهم يونس -عليه السلام- بأن العذاب سيأتيهم بعد ثلاثة أيام؛ جادلوه ولم يرتدعوا وغاضبوه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) (الأنبياء:87)، فقد ذهب يونس -عليه الصلاة والسلام- منزعجًا مِن عدم قبولهم للتوحيد والحق، لكنه ذهب قبل أن يؤمر بالذهاب والمغادرة كما حصل مع لوط -عليه الصلاة والسلام-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (هود:81)، وهذا الفعل خلاف الأولى، ولذلك استحق اللوم (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (الصافات:142).  

وتبدّت قدرة الله -عز وجل- فلم يتركه ربه لأمواج البحر الهائج تغرقه، وجهَّز له حوتًا ينتظره! ولكنه أيضًا لم يقطعه بأسنانه! وبرزت هنا حكمة الله -عز وجل- الذي ألْهم عبده يونس التسبيح والدعاء والتضرع، والذي كان نهجًا له مِن قبل في الرخاء: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات:143-144)، وعندها تنزلت رحمة الله -سبحانه وتعالى- عليه: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:87-88)، فأنجاه ربه مِن ظلمات الغم، وظلمات بطن الحوت، وظلمات عمق البحر، ثم تكاملت رحمة ربه عليه: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ . لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (القلم:48-49)، وجاء لطف الله -جل وعلا- بيونس المكظوم والمكروب (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ . وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (الصافات:145-146)، حيث ظللت عليه بأوراقها من الشمس والحشرات وعالجت جراحه بما فيها مِن دواء، وكانت ثمرتها اليقطين شرابًا وطعامًا له دون مشقة وعناء منه.

وبهذا تتبدى العبرة بضرورة الصبر على حكم الله -عز وجل- أولًا، وأن الرجوع لله -عز وجل- والتوبة والإنابة والاستغفار هي منهج الأنبياء ثانيًا، وأن أقدار الله -عز وجل-، ورحمته ولطفه بعباده الصالحين فوق كل خيال وتصور ثالثًا.