الفساد (8) الرشوة أشهر صور الفساد

  • 229

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتعد الرشوة أشهر صور الفساد داخل المؤسسات وأماكن الخدمات الحكومية، وقد صارت الرشوة شائعة يمارسها الأغنياء والفقراء على السواء، وإن اختلفت مستوياتها والمرجو مِن ورائها، مِن طبقةٍ لأخرى، ومِن رشوةٍ لأخرى.

والرشوة: ما يُعطى لقضاء مصلحة، أو ما يعطى لإحقاق باطلٍ أو إبطال حق. والجمع: رشا، بكسر الراء وضمها (انظر المعجم الوجيز).

وكلمة الرشوة: أصلها مِن الرشاء، وهو الحبل الذي يُتوصل به إلى الماء. فالراشي: مَن يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ، والرائش: الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا.

والثلاثة مستحقون للعن: "الراشي والمرتشي والرائش"؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

قال الخطابي -رحمه الله-: "وإنما يلحقهما العقوبة إذا استويا في القصد والإرادة؛ فرشا المعطي لينال به باطلًا ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى أخذ حق أو يدفع عن نفسه ظلمًا؛ فإنه غير داخل في هذا الوعيد" (معالم السنن).

والقوانين تحرِّم الرشوة، ففي قانون العقوبات المصري: نصت المادة (103 مكرر) على تعريف المرتشي بأنه: "كل موظف عمومي يطلب لنفسه أو لغيره أو قَبِل أو أخذ وعدًا أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه مِن أعمال وظيفته أو الامتناع عنه". وتطور الحياة الاقتصادية أوجد أشكالًا جديدة وعديدة، وسلوكيات وممارسات كثيرة تندرج في المعنى القانوني والأخلاقي للفساد. وفي قانون العقوبات الفرنسي التمييز بين صورتين من هذا الفساد، وإن كان كلاهما فساد؛ فهناك الفساد النشط وهو: "سعي الموظف الحكومي بنشاطٍ مِن أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد"، وهناك الفساد السلبي وهو: "قبول المسئول لهديةٍ أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة".

فالموظف العمومي (الحكومي) لا يجوز له أن يحصل على أي أموال أو منفعة قبل أداء الخدمة التي يقدمها لعميل أو مواطن أو بعدها، بطلب منه أو بدونه، ولا يعد ما يأخذه -ولو كان من غير طلبه- مِن قبيل الهدية الجائزة، وهذا ما عليه العمل بصرامة في العديد من الدول المتقدمة، فلا يقبل الموظف العمومي هناك أي عطاء مقابل عمله إلا الرسوم المفروضة إن وجدت.

وقد سبق الإسلام ما وصلت إليه الحضارة الحديثة في هذا الشأن منذ (14) قرنًا: ففي الحديث عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ؟) مَرَّتَيْنِ. (متفق عليه). (ابن اللتبية: بضم اللام وفتحها، وسكون التاء المثناة الفوقية وفتحها، نسبة إلى بني لتيب، قبيلة معروفة، واسمه: عبد الله. الرغاء: صوت البعير. الخوار: صوت البقر. تيعر: أي تصيح، واليعار: صوت الشاة).

وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابن اللتبية: (فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا)، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَلاَ فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ: (أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟!) (متفق عليه).

قال الشيخ عبد الغني النابلسي: "وفي الحديث: بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه خان في ولايته وأمانته، وقد بيَّن -صلى الله تعالى عليه وسلم- في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية، وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة" (تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية، ط. مكتبة القرآن القاهرة، ص: 59-60).

والغلول: هو الخيانة في المغنم، والسرقة مِن الغنيمة قبل قسمتها، وكل مَن خان في شيء خُفية فقد غل، وسميت غلولًا؛ لأن الأيدي فيها مغلولة، أي: ممنوعة، مجعول فيها غل، وهي القيد الحديدي الذي يجمع يد الأسير إلى عنقه.

ونقل الشيخ عبد الغني النابلسي عن الخطابي قوله: "في هذا بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحات، وإنما يهدي إليه للمحاباة وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله".

والسحت: الحرام الذي لا يحل كسبه، فهو يسحت البركة أي يذهبها، وهو مشتق مِن السَّحت -بتشديد الفتحة على السين- وهو الإهلاك.

وفي حديث عدي بن عميرة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ؟) قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) (رواه مسلم).  

وفي الحديث عن خولة بنت عامر الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ) (رواه البخاري).

ومِن التخوض في المال: التصرف فيه تصرفًا غير شرعي وبدعاوي باطلة.

وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب الهبة: "باب مَن لم يقبل الهدية لعلة"، عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: "كَانَتِ الهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً، وَاليَوْمَ رِشْوَةٌ" (صحيح البخاري 3/ 159).

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في شرحه للحديث: "وصله ابن سعد بقصة فيه مِن طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئًا يشتري به، فركبنا معه فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح، فتناول واحدة فشمها، ثم رد الأطباق، فقلت له في ذلك؟ فقال: لا حاجة لي فيه، فقلت ألم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- يقبلون الهدية؟ فقال: "إنها كانت لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة".

قال ابن حجر -رحمه الله-: "ووصله أبو نعيم في الحلية من طريق عمر بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز في قصة أخرى" (انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 5/ 261).

وفي المقابل لذلك: حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ مَا أُمِرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) (متفق عليه).  

(الْخَازِنَ): مبتدأ. و(أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ): خبر. (الْأَمِينَ): الذي يؤدي ما اؤتمن عليه. (يُنْفِذُ مَا أُمِرَ بِهِ): أي يفعله؛ لأن مِن الناس مَن يكون أمينًا، لكنه متكاسل، فالمراد الأمين القوي لا الأمين الضعيف. (طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ): طيبة نفسه إذا نفذ وأعطى ما أمر، لا يمنُّ على المعطي، أو يظهر فضلًا عليه، بل يعطيه طيبة به نفسه. يكون (أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ): يُثاب بثواب المتصدق مع أنه لم يدفع مِن ماله شيئًا.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: "ففي هذا الحديث دليل على فضل الأمانة، وعلى فضل التنفيذ فيما وكل فيه وعدم التفريط فيه" (شرح رياض الصالحين).

الفرق بين الهدية والرشوة:

يستحب التهادي بين الناس ويستحب قبول الهدية، ويستحب مقابلة الهدية بهدية مِن باب التودد بين الناس، ففي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: "ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَارٌ"، فَقُلْتُ يَا خَالَةُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟! قَالَتْ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا" (رواه البخاري).

وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا" (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) (رواه البخاري).

قال المناوي -رحمه الله- نقلًا عن ابن بطال: "أشار -عليه الصلاة والسلام- بالكراع إلى الحث على قبول الهدية وإن قلَّتْ؛ لئلا يمتنع الباعث مِن الهدية لاحتقار الشيء، فحثَّ على ذلك؛ لما فيه مِن التآلف" (فيض القدير).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) (متفق عليه). والفرسن: عظم قليل اللحم.

قال الإمام عبد الغني النابلسي: "وقد أجمعت الأمة على جواز أخذ الهدية، وأجمعت الأمة أيضًا على تحريم أخذ الرشوة مِن غير نكيرٍ منكر في ذلك" (تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية).

فمن استعمل على عمل أو تولى القضاء لا يجوز أن يأخذ ما قد يُعطى إليه أثناء عمله الذي تولاه، مع مراعاة القيام بعمله المكلف به بكل أمانةٍ وكفاءةٍ على النحو المطلوب منه، دون أن ينتظر أو يأخذ على عمله هذا غير راتبه الذي قبله لنفسه على هذا العمل.

فإذا أعطي العامل عطية مِن بيت المال أو مالًا مِن السلطان بغير مسألة ولا تطلع نفس؛ فله أخذه، وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ يَا رَسُولَ اللهِ، أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) (متفق عليه)، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- مرفوعًا: (مَا آتَاكَ الله مِنْ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافٍ فَكُلْهُ وَتَمَوَّلْهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

قال الإمام النووي -رحمه الله- في حكم أخذ العامل لعطية السلطان التي يعطيها له: "الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أنه يستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان فحرَّمها قوم وأباحها آخرون وكرهها قوم. والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى مَن لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه مِن استحقاق الأخذ" (شرح النووي على مسلم).

والرشوة وإن كانت حدثت في أول أمرها في صورٍ فرديةٍ، لكن تزايدها دون مقاومة حقيقية مؤثرة مِن الشرفاء والمصلحين، ومنظمات المجتمع المدني؛ أدَّى إلى تحولها إلى نمطٍ عامٍّ وسلوكٍ واسع الانتشار ليس في الطبقات العليا فقط، ولكن في باقي فئات المجتمع، ليتحول معها المجتمع ككل إلى ما يشبه الغابة التي لا يحكمها قواعد للسلوك أو نظام أخلاقي في المعاملات، حتى صار الفساد ثقافة مقبولة ومتفشية!

ومما هو متفق عليه أن سياسات الحكومة في مصر بشأن المرتبات والأجور هي التي أدت بصفة رئيسية إلى انتشار الرشوة في المجتمع المصري من خلال ظهور أماكن تقدِّم خدماتها بصورةٍ غير رسمية بعيدًا عن أماكن الخدمات والأجهزة الحكومية، خاصة في مجالات التعليم والصحة، وهي ما تعرف بالمرافق الموازية، ومِن خلال تفشي تسهيل خدمات بصورة خفية غير معلنة داخل أماكن الخدمات الرسمية والأجهزة الحكومية في التعليم، والصحة، والشرطة، والمحاكم، ومكاتب التوثيق والشهر العقاري، وغيرها، فيما يُعرف باسم: (الاقتصاد الخفي) أو (الاقتصاد الموازي) أو (الاقتصاد غير الرسمي)!

وتعد الرشوة داعمًا رئيسيًّا لهذا الاقتصاد الخفي الذي لا يدخل سجلات الدولة رسميًّا، وإنما يدخل جيوب المستفيدين منه على حساب دافعيه، وهو في مجمله إيرادات بمليارات الجنيهات سنويًّا مهدرة، يدفع تكلفتها مقدموها؛ فعلى سبيل المثال:

في مجال الصحة:

حيث يتردد على المستشفيات والوحدات الصحية على مستوى الجمهورية حوالي 47 مليون مريض سنويًّا وفقًا لبيانات وزارة الصحة عام 2006 م، وحوالي 5 و16 مليون عام 2008م، وغالبيتهم مِن الفقراء ومحدودي الدخل؛ إذ إن القادرين ماليًّا يتوجهون إلى المستشفيات الاستثمارية،. وهذا القطاع يدخله الفساد مِن جهة الرشوة في العديد مِن الخطوات التي يقوم بها المرضى والمنتفعين داخل المستشفيات والوحدات الصحية بدءًا مِن نظام العلاج المجاني أو بالأجر؛ للحصول على حجزٍ في عنبرٍ أو موعد لإجراء جراحة مرورًا باستخراج قرارات للعلاج على نفقة الدولة، ويتورط في هذه الممارسات الفاسدة الكثير مِن الأطباء والتمريض وعمال المستشفيات، والوحدات الصحية؛ لتقديم الخدمات الطبية على الوجه الأكمل!

ولكلٍّ أساليبه لينال حظه مِن مال الفساد، مِن إجبار المرضى على اللجوء إلى العيادات الخاصة للأطباء خارج المستشفيات، والاتفاق على أتعاب العملية الجراحية التي ستجرى بمعرفة طبيب العيادة الخاصة، ولكن في المستشفى التي يعمل بها، حيث يعد المريض بعد الاتفاق في العيادة الخاصة حالة الطبيب مضمونة الحجز والدخول، وأخذ العلاج المناسب وإجراء العمليات الجراحية مجانًا في المستشفى الحكومي (حالة الدكتور فلان)، ويحصل طاقم التمريض والعمال بدورهم على إكراميات في مقابل الرعاية المناسبة للمريض داخل المستشفى الحكومي أو الوحدة الصحية (راجع في ذلك: اقتصاديات الفساد في مصر، د.عبد الخالق فاروق، ط. مكتبة الأسرة 2012م، ص: 57-58).

وفي مجال الأمن والشرطة والمحاكم:

فقد بلغت أعداد المحاضر المقيدة في أقسام الشرطة ومديريات الأمن وبلاغات النيابات في عقد التسعينيات أكثر مِن 10 مليون محضرًا سنويًّا، وتنظر المحاكم المصرية سنويًّا حوالي 3 ملايين قضية، ومجمل القضايا المعروضة أمام القضاء بكل فروعه نحو 30 مليون قضية وفقًا لبيانات عام 1998م.

ومِن ممارسات الفساد الخفي فيها:

- ما يقدم مِن إكراميات (رشوة) في المحاكم بصورةٍ يوميةٍ وشبه علنية لدى قلم المحضرين، وكتبة الدوائر، وسكرتيري الدوائر، ومِن ورائهم أفراد حراسة وأمن الترحيلات المرتبطين بالمحاكم وجلساتها.

- الحاجة إلى واسطة أو دفع إكرامية (رشوة) في أقسام الشرطة والمديريات تقدم لمندوبي الشرطة أو الأمناء أو المخبرين السريين لتحرير محضر بواقعةٍ، أو نحو ذلك مِن الخدمات.

- الهدايا التي تمنح لضباط الشرطة والمباحث وقيادات الأمن من كبار التجار ورجال الأعمال لتقديم الحماية والمساندة عند الضرورة.

- تقديم خدمات وتسهيلات لبعض المشاهير مِن الفنانين ورجال الأعمال والمال في الجوازات والمطارات في مقابل هدايا عينية ومالية، وخدمات أخرى (راجع اقتصاديات الفساد في مصر، ص: 55- 57).

وهذا على سبيل المثال لا الحصر؛ وإلا فهناك صور أخرى كثيرة مشابهة في الجمارك والضرائب، ومدارس وإدارات التربية والتعليم والمحليات، وهي صور مِن الفساد المحرَّم -كما بيَّنا-، وتستنزف المليارات مِن المواطنين بغير وجه حق تمثِّل عبئًا زائدًا عليهم، وتتم بعيدًا عن السجلات الرسمية والتراخيص اللازمة لها والضرائب المترتبة عليها.