الداعيةُ الحقيقِيُّ (2)

  • 238

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالداعيةُ الحقيقيُّ: لا يَعرفُ لغةَ الإحباطِ واليأْسِ، بلْ قَلْبُهُ مُفْعَمٌ بِالأَمَلِ والرجاءِ المقرونَيْنِ بالحركةِ، مُستبْصِرٌ بِنُورِ الوَحْيِ والعلمِ، يستحضرُ قولَ الله -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)، ويخشى أن يُصيبَهُ نَصِيبٌ مِن قولِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (رواه مسلم).

شعارُهُ: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).

يَرَى في كل تَحَدٍّ فرصةً، وفي كلِّ شدةٍ فرجًا، وهَمُّهُ إيجادُ مَنْفَذٍ ومَدْخَلٍ لِلْإِصْلَاحِ والخيرِ.

لَا يسلُكُ مَسْلَكَ اختلاقِ المعاذيرِ وتبريرِ الكسلِ، فالناس مِن حَوْلِهِ يقولون: كيف نستقيمُ أمامَ هذهِ الفتن؟ وهو يقول: بل كيفَ لا نَسْتَقِيمُ؟!

يستحضِرُ في ذلك تاريخ أُمَّتِهِ، وكيفَ كانت تَمُرُّ بالمحنِ والفتنِ، ثُمَّ يُقَيِّضُ اللهُ لَهَا مِن أَبنائِهَا مَن ينهضون بها، أمثالُ: صلاحِ الدين، وقطز، وبيبرس، ومحمد الفاتح، وغيرهم. 

إذا سمِعَ الناسَ يقولون: كيف نعملُ؟ فهو يقولُ: كيفَ لا نعملُ، ولِمَ لا نعمَلُ؟! يستحضرُ قولَ رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم-: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ) (رواه مسلم).

الناسُ يقولون: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء:61)، وهو يقول: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62).

هُوَ يَرَى الانتماءَ للدين عَمَلًا مقرونًا بالصبرِ والمجاهدَةِ، وأنَّ الحاكِمَ على الواقعِ هو العِلْمُ وليس الْجَهْلُ، وكذلك الوحيُ وليس الهوَى.

داعيةٌ حَقِيقي وليس مجرد مُنتمٍ لا يعملُ!

واعلم أنَّ عَدَّ السلبيات يستطيعه كُلُّ أَحَدٍ، وهي وظيفةٌ ومهنةٌ سهلة يجيدها الكسالى وأصحاب الهمم الضعيفة، واقرأ إن شئت قولَ الله -تعالى- في ذمِّ المنافقين المثبطين المتربصين: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:49).

أما الداعية الحقيقي: فيبقى فيه بث روح الأمل والتفاؤل، ممتثلًا قولَ الله -تعالى-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26)، ساعيًا للعمل على تحسين الأوضاع، ومقاومة الفساد والظلم والشر وَفْقَ قواعد الشريعة، مواجهًا كل التحديات؛ وإلا فلو أَنَّ كلَّ مَن يعمل أصابه الإحباط واليأس فهل ستتحسن الأمور، ويزول الفساد وينقشع؟! بالطبع لا.

الداعية الحقيقي: أحيانًا يُصَدِّرُ له خصمُه الإحباطَ حتى يَمَلَّ ويترك العمل، تأمل -مثلًا- قولَ رأس المنافقين في غزوة الأحزاب: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) (الأحزاب:13)، فلماذا قال يا أهل يثرب، رغم تغير اسمها قبل أربع سنوات مِن الغزوة؟! لماذا في ذلك الوقت؟! إنه التحبيطُ والتثبيط للمؤمنين.

الداعية الحقيقي العاقل: هو مَن يدرك أن اليأسَ هزيمةٌ قبْل الهزيمة، وبريدُ خرابٍ وهلاك.

والمؤمن شأنه عظيم، وقلبه عامرٌ معلقٌ بالله ويُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ، يستحضر قول الله -تعالى-: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22).

واعلم أنك لم تُقَدِّمْ جديدًا عندما تشكو السلبيات وتعدِّدُها، فالجميعُ يعلمها، بل وبعضهم يجيدُها ويتأقلم معها، لكن الرجلَ الفَطِن هو الذي يبعث الأملَ في النفوس، ويقاوم حالةَ الإحباطِ، ويسعى لإيقاظِ الهمم وبذل الوسع.

ولنا أمل.