فقه طلب الرزق (2)

  • 370

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

نستكمل ما تكلمنا عنه في المقال السابق مِن أنَّ لطلب الرزق فقهًا شرعيًّا دقيقًا نحتاج إلى معرفته وتوضيحه؛ لنكون على بصيرةٍ فيه.

رابعًا: ثم لنعلم أن رزق المعايش هذا سبب للبلاغ في هذه الدنيا، نستعين به على طاعته -سبحانه-، وليس مقصودًا لذاته، وأننا خلقنا في هذه الدنيا لعبادته -سبحانه وتعالى-؛ لذلك فنحن مشغولون بإعداد الزاد لنعود إلى وطننا الجنة، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197).

فـحي على جنات عدن فإنها             منازلنا الأولى وفيها المخيم

ومِن رحمة الله ببعض عباده المؤمنين أنه يصرف عنه الدنيا أو ما زاد علي كفايته؛ ليخف حمله، وحماية له منها كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، تَخَافُونَ عَلَيْهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

خامسًا: قد أجرى الله قانون الدنيا على الأسباب والمسببات: فكما لا يكون ولدٌ بدون زواجٍ، كذلك لا معايش دون سعيٍ، وهكذا...

ومِن محاسن الإسلام الذي هو منهج حياة: أن جعل السعي على المعاش بنيةٍ صالحةٍ عملًا صالحًا يُؤجر العبد عليه، قال -صلى الله عليه وسلم- في حق الشاب الجلد الذي خرج يحتطب، وقال الصحابة: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَتَفَاخُرًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) (رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).

وهو في سعيه على معاشه يجعل سعيه للآخرة أكثر؛ لأن الله بدأ بالآخرة، فقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص:77)، وعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة مدافعة للكافرين؛ لئلا تفسد الأرض بتسلطهم على المسلمين كما قال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحـج:40).

سادسًا: هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي ما سقي منها كافرًا شربة ماء، وهي أهون شيء على الله، ولولا فتنة بعض المسلمين في دينهم لجعل الله بيوت الكفار مِن زخرفٍ، كما قال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف:34-35).

فلا تغتر بما ترى مِن تقلبهم في البلاد، قال الله -تعالى-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:196-197).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (متفق عليه).