الفتنة المضلة!

  • 279

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛    

فلا شك أننا نعيش في زمنٍ كثرت فيه الفتن، وتشعبت وأصابت خلقًا كثيرًا حتى بات مَن لم تصبه الفتنة ناله قسط مِن غُبارها!

وحينما نتكلم عن الفتن نعني بها الفتن المُضلة التي كان يتعوذ منها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي ينقلب فيها الإنسان على عقبيه فينكر ما كان يعده معروفًا، ويعرف ما كان عنده منكرًا؛ لا لأنه قد ظهر له بالدليل ما هو أرجح أو ظهر له مِن الواقع ما لم يكن يعرف، بل فقط للهوى المضل والشهوة الكامنة، والرغبة في التخلص مِن ضغط الواقع والمجتمع.

ولما كانت هذه الفتن تمثِّل طبيعة وعلامة مِن علامات الطريق (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)؛ كان لزامًا على العاقل أن يبحث لنفسه -أولاً- عن سُبل نجاتها، وكذا مَن حوله مِن أهله وإخوانه، بل وجميع المسلمين.

فمِن أعظم أسباب النجاة مِن الفتن المضلة:

- الاتصال الوثيق بالله -عز وجل- بكثرة اللُجأ إليه والعبادة له "وخصوصًا في الهرج"، والإلحاح في الدعاء؛ فهو يثبت القلوب ويُصرفها إلى الخير والحق (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء:74).

- ومنها: الفهم العميق للشرع والواقع، وذلك بالاجتهاد في تعلم الشرع علمًا تفصيليًّا مِن خلال الكتاب والسُّنة، وفهم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وتنزيل الأحكام على الواقع وفق موازين الشرع وعمل العلماء الراسخين، والذين لا يخلو منهم زمان -بفضل الله-

- ومِن ذلك: التعاون على البرِّ والتقوى، وتقوية الأواصر بين أصحاب المنهج الصحيح والطريق الواحد، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وإنما يأكل الذئب مِن الغنم القاصية، والفرقة من الشيطان يفرح بها ويحث عليها، وتفرح أيضًا شياطين الإنس المتربصين بأهل الإيمان، والاجتماع يغيظهم ويفوت عليهم مخططاتهم، فيجب على أهل الإيمان أن يكونوا حريصين على لم الشمل وجمع الكلمة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

- ومِن ذلك: الصبر عن الشهوات، فالدنيا عند المؤمن ليست بدار مقام، والآخرة خير وأبقى وهي الحيوان لو كانوا يعلمون، ولن تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

- ومِن ذلك: المشاركة الفاعلة في العمل للدين، وعدم الاكتفاء بمقاعد المتفرجين أو حتى المشجعين، فخير وسيلة للدفاع عن حصونك المشاركة في فتح قلوب جديدة ليملأها الإيمان والطاعة؛ فبهذا فقط تحافظ على رأس مالك، بل ويزداد بفضل الله -عز وجل-.

- ومن ذلك: كثرة الاطلاع على سير الأنبياء والصالحين ففيها العبرة والعظة، وهي مِن أعظم وسائل الثبات (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120).

- وجماع ذلك: التحلي بروح المسؤولية، واستلهام نفسية الصحابة والصالحين، ومنهم: أنس بن النضر -رضي الله عنه وعنهم أجمعين -، ففي أُحد ظل يقاوم ويقاتل عن دينه حتى أصيب بضع وثمانين ما بين ضربةٍ بسيف وطعنةٍ برمح ورمية بسهم! ولم يتوقف بعد الضربة الأولى ولا العاشرة ولا العشرين؛ رغم أنها ليست جراحًا عابرة، بل ضربات نافذة، ومع ذلك لم يتوقف حتى عجز تمام العجز ولكن متى؟ بعد بضعٍ وثمانين ضربه!

فسبحان الله على الهمم!

كم بيننا وبين هؤلاء -رضي الله عنهم-؟!

هذه النفسية هي التي يعجز أمامها الأعداء، وهذه هي الأنفس الصلبة كالصفا، تموت ثابتةً على دينها وقد قدَّمت ما تستطيع لنصرته، وهذا الشعور لا يحرِّكه إلا الإيمان الصادق.

فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.