عاجل

تأملات في حجة الوداع (23)

  • 204

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا -يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ. وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ؛ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ. كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا".

قوله: "وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ": فيه حرص الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على اصطحاب الشباب معه ليتعلموا منه؛ فمِن عَرَفَة إلى مزدلفة أردف أسامة بن زيد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، ومِن مزدلفة إلى منى أردف الفضل بن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وهذه مسألة تربوية عظيمة الأهمية، دل القرآن عليها؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) (الكهف:60) الآيات، فقد اصطحب موسى فتاه يوشع بن نون الذي صار نبي بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون -عليهما السلام- وهو الذي قاد بني إسرائيل لفتح بيت المقدس وتأسيس الدولة المسلمة هناك التي رجى موسى أن تكون لمؤمني بني إسرائيل في زمنه فلم يجيبوه، بل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24)، وإنما اصطحب موسى فتاه ليتربى ويتعلم طريقة القيادة والخلق السليم والعمل الصالح، فضلًا عما يتعلمه مِن الخَضر مع موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وينبغي للعلماء والدعاة والقادة أن يهتموا بصحبة الشباب لهذا الغرض، وليس لمجرد حمل المتاع أو النعال أو قضاء المصالح للعلماء والقادة؛ فرقٌ هائل بيْن مَن يصطحبون الشباب ليكونوا هالةً حول القائد والزعيم وبين مَن يصطحبهم للتربية العملية والتعليم المباشر والاختلاط بهم؛ فتَعَلُّم الأخلاق والسمت والهدي لن يكون بإلقاء الدروس المُجَرَّدَة فضلًا عن أن تكون دروسًا على البعد -كالدراسة عبر الإنترنت- فقد يُحَصِّل الطالب علمًا، لكن لا يُحَصِّل أدبًا ولا خُلُقًا، ولا فَهمًا للواقع وإدراكًا لاحتياجات الناس وطريقة التعامل معهم، وحسن الرفق بهم؛ وهذا مِن الأمراض الخطيرة التي تضر أعظم الضرر -أن يفقد الإنسان هذه الخصال- فضلًا عن الخلل في فهم الكثير مِن المسائل قد تؤدي إلى انحرافٍ عن المنهج المستقيم.

فلابُدَّ مِن استغلال الأسفار وأوقات الانتقال، بعد الخلطة في المسجد في الصلوات الخمس وفي الجمعة وفي دروس العلم، مع دوام السؤال عن الشأن ومعرفة تفاصيل حياة مَن يُربى، والمعاونة على علاج مشاكله، والتوجيه والإصلاح المستمر، مع تحمل الأخطاء وترك الملامة والعتاب المستمر والانتهار والتغليظ، فضلًا عن الضرب والعقاب البدني.

وهذه آداب للأب والأم، والمُعَلِّم والشيخ، والقائد والزعيم ،والداعية والعَالِم، إذا أراد أن يتعلم مِن هدي الأنبياء -صَلَوَاتُ الله وسَلَامُه عَلَيهم أجمعين-؛ فموسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لم يُعَاتِب يوشع بن نون -عَلَيْهِ السَّلَامُ- على نسيانه إخباره بفَقْدِ الحوت عند مَجْمِع البحرين مع أنها المهمة الوحيدة التي كلفه بها ومع ذلك نَسِيَها؛ فلم يَزِد على قوله: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)! (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) (الكهف:64)، مع أنهما سارا يومًا وليلة وجزءًا مِن اليوم التالي حتى وجدا النَّصَب بسبب مُجاوزة المكان الذي أُمِرَ به، ومع ذلك كان العفو والصفح وحسن الخلق وحسن الصحبة التي يظهر أثرها في قيادة الأمة بالرحمة والسداد بعد ذلك.

وفي أثناء إرداف الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفضل بن عباس خلفه، "مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ؛ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ؛ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ"، ومع أن هذا تكرر منه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عند جمرة العقبة كما رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، وأخرج أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرْدَفَ الْفَضْلَ، وَسَارَ حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ، فَقَالَ: (هَذَا الْمَنْحَرُ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ)، قَالَ: وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَفْنَدَ، وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ؛ فَهَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَأَدِّي عَنْ أَبِيكِ)، قَالَ: وَقَدْ لَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ: (رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنْ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا)، لم يزد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على صَرْفِ وجهه ولَيِّ عُنُقه، مع بيان العِلَّة في ذلك؛ فما كَهَرَه ولا ضَرَبَه ولا شتمه، وأظن لو أن أحدنا صَحِب بعضَ الشباب ففَعَل ذلك لطَرَدَه شَرَّ طردة، وفَضَحَه شَرَّ فضيحه! ولكنه الخلق الكريم، والتربية العظيمة التي تخرِّج الأجيال الفذة والقادة العظام.

وفي قوله: "وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ؛ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: (أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ)، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ"، قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَعْنَى شَنَقَ: ضَمَّ وَضَيَّقَ، ومَوْرِك الرَّحل هُوَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ، وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ الرِّفْقِ فِي السَّيْرِ مِنَ الرَّاكِبِ بِالْمُشَاةِ وَبِأَصْحَابِ الدَّوَابِّ الضعيفة" (شرح النووي على مسلم، 8/ 186).

وفي أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالسكينة -وَهِيَ الرِّفْقُ وَالطُّمَأْنِينَةُ- ما أعظم هذا الخلق وهذه الرحمة، والحرص على عدم التدافع والتسابق الذي يأتي على حق الضعيف، خصوصًا في الزحام الشديد الذي يكون في الحج وحرص كل الناس على إنهاء مناسكهم؛ فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم معلم للبشرية، دائمًا يُقَدِّم حق الضعيف ويُحَرِّج فيه؛ وإنما تسود الأمم بذلك، لا بأكل حقه وتضييعه وإهماله، وفي الحديث الصحيح أن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لا يُقْضَى فِيهَا بِالْحَقِّ وَيَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ) (رواه ابن ماجه والطبراني واللفظ له، وصححه الألباني)، ثم روح التراحم التي يجب بَثُّها في الأُمَّة كما قال -تعالى-: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (البلد:17-18)، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) (متفق عليه).

وتـأمل في إرخاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لناقته الزمام كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ الْحِبَالِ -أي تَلًّا من الرمال- أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ؛ وذلك رحمة بها؛ ومَن كانت شفقته ورفقه بالحيوان ومعرفة حال المشقة عليه فيخففها عليه؛ كيف يكون حاله مع البشر ومع أمته وأتباعه؟! ولابد في هذا مِن إدراك الواقع؛ لمعرفة ما يشق على الخلق ويصعب عليهم.

ووالله إن هذه الخصال لا تنبع إلا من القلب السليم الرؤوف الرحيم الذي جعل الله رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المحل الأعلى من ذلك؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

فيا أيها القادة، ويا  أيها الملوك والرؤساء والأمراء، وقادة الجماعات والطوائف؛ اقتدوا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في إدراكه لآلام الخلق والشفقة عليهم، ووسِّعوا عليهم عندها والطُفُوا بِهِم؛ يوسِّع الله عليكم ويلطف بكم، وزيدوا في الرحمة بالضعيف والعاجز عن التعبير، وتوصيل صوته وشكواه.

وقوله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"، قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأَمَّا الْمُزْدَلِفَةُ فَمَعْرُوفَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ التَّزَلُّفِ وَالِازْدِلَافِ، وَهُوَ التَّقَرُّبُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ إِذَا أَفَاضُوا مِن عرفات ازدلفوا إليها -أي: مضوا إليها وتقربوا مِنْهَا-، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ -أَيْ: سَاعَاتٍ-، وَتُسَمَّى جَمْعًا؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مِنَ الْحَرَمِ.

وفيه مِن الفوائد: أَنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِنْ عَرَفَاتٍ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّأْخِيرُ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِسَبَبِ النُّسُكِ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَغَيْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ جَمَعَ بِسَبَبِ السَّفَرِ فلا يجوز إلا لمسافرٍ سفرًا يبلغ به مَسَافَةَ الْقَصْرِ -وَهُوَ مَرْحَلَتَانِ قَاصِدَتَانِ-، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْجَمْعُ بِسَبَبِ النُّسُكِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (شرح النووي على مسلم، 8/ 187).

وقد رجحنا أن هذا الجمع هو للنُّسُك؛ فيُشرع لأهل مكة وما حولَها؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمرهم أن يصلوا الصلاة في وقتها، ولا أن يتموا صلاة العشاء.

قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ فِي أَرْضِ عَرَفَاتٍ أَوْ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا جَازَ جَمِيعُ، ذَلِكَ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَشْهَبُ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَّا مَنْ به أو بِدَابَّتِه عذرٌ؛ فله أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ الْمُزْدَلِفَةِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ) (شرح النووي على مسلم، 8/ 187).

قلتُ: الصحيح -والله أعلم- أن الأصل وجوب الصلاة في المزدلفة، خصوصًا إذا رَجَّحْنَا أن ذلك للنسك؛ لكن إذا اشتد الزحام فهو بمنزلة العذر في الدابة أو في الشخص إذا خاف أن يفوت الوقت -وهو نصف الليل-؛ فعند ذلك يُصَلِّي المغرب والعشاء حيث أدركه ذلك، فيجمع ويقصر، وفاته الفضل، لكنه معذور؛ فلا إثم عليه، ولا دم عليه؛ لأنه (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:286).

قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ- في فوائد هذا الجزء مِن الحديث: "أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، بِأَذَانٍ لِلْأُولَى وَإِقَامَتَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ إِقَامَةٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ الْمَالِكِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلْأُولَى وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ أَيْضًا للثانية، وهو مَحكِيٌّ عن عمر وابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: أَذَانٌ وَاحِدٌ وَإِقَامَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَوْلٌ أَنَّهُ يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِإِقَامَتِهَا بِلَا أَذَانٍ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ يحكى أيضًا عن ابن عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (شرح النووي على مسلم، 8/ 188).

والصحيح في ذلك: أن يفعل كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما رواه جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أن يصلي بأذان واحد وإقامتين، لكل واحدة إقامة.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا" فَمَعْنَاهُ: لَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا نَافِلَةً، وَالنَّافِلَةُ تُسَمَّى سُبْحَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّسْبِيحِ، فَفِيهِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلْجَمْعِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ شَرْطٌ، أَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْأُولَى فَالْمُوَالَاةُ شَرْطٌ بِلَا خِلَافٍ" (شرح النووي على مسلم، 8/ 188).

والصحيح في هذه المسألة: أن معنى الجمع لا يَحصل إلا بالموالاة، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَع بين المغرب والعشاء، ولا يُقال: "جَمَع" مع التفريق؛ ولذلك لا يُشرع ولا يصح الجمع بصلاة نافلة بين الصلاتين المجموعتين -تقديمًا أو تأخيرًا-، ولا يضر الفصل اليسير عُرفًا، ولا تَضر صلاةُ الجنازة إذا حَضَرَت -كما سبق بيانه-. والله أعلم.