التوازن العلمي (2)

  • 220

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- فالجانب العلمي أحد أعظم قوى البناء، ولا بناء بلا علم وعمل، قال -تعالى-: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم:12)، وأصل العمل العلم، وإلا فهو سعي في ضلال؛ لذلك قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (محمد:19)، وبوب البخاري في صحيحه: "باب العلم قبْل القول والعمل"، والبناة الحقيقيون في هذه الملة هم أهل السُّنة تفصيلًا، وهذا القيد بات مهمًا؛ لأن التفصيل كاشف للمنهج المعالِج لمظاهر الخلل والأدواء التي حلت بجسد أمتنا، أما الأطروحات العلاجية لكثيرٍ ممَن ينسب نفسه عنوة للسُّنة فلا تمثِّل إلا نماذج دخيلة، أقل وصفها الدخن، لذلك يشترط في البناة العلم التفصيلي، في مناهج الاستدلال، والمرجعية عند الخلاف والوفاق، واعتماد أصول يبنون عليها بقواعد راسخة في الجذور متشعبة لا تتزعزع، وهذا هو المنطلق الذي يحدث به التغيير الإيجابي المرجو، وتشرق به آفاق الأمل، وينتشر نوره.

- إن العلم الذي أشرنا إلى حاجتنا إليه شرعي مِن حيث الدلالة عليه، فمنه ما يسمَّى به كالإيمان والفقه والإحسان، ومنه ما أمرنا بتحصيله شرعًا للنهوض بأمتنا؛ أفرادًا وجماعات، أما الأول العيني يستلزم الثاني وهو: بعث فصائل واسعة منه، تتفرغ لتحصيله وبثه وتحقيقه ورصده وصد الدخيل عنه، فخلاصته وجوبه، قال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، والعجب لا ينقضي مِن نداءات بعض الجماعات للتنفير عن هذا الأصل، تحت وهم دعاوى الأولويات، فما ورثوا إلا الجهل، وقاموا به ودعوا إليه، فصار التفريق بيْن الصحيح والباطل، والسُّنة والبدعة، والأولى والمفضول، لا أصل يفصل فيه عندهم إلا بطرق تبعدهم أكثر مما هم فيه، حتى إنك ترى تسلط الجهلة على قراراتٍ مصيرية في آلاف، وربما ملايين مِن المسلمين، فهؤلاء فسادهم راجح، وضلالاهم واضح، والتنفير عنهم راجح.

- العلم الشرعي سمة ووصف لأهل الإيمان، وسلب لأهل النفاق والعصيان، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه)، فيفهم مِن ذلك أن مَن لم يفقهه الله في الدين لم يرد الله -عز وجل- به خيرًا، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8)، (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (المنافقون:7)، فمِن خصال المنافقين عدم التفقه في دين الله -عز وجل-، وعدم العلم بدين الله -سبحانه-، وقال -تعالى-: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) (التوبة:97).

قال الأعمش عن إبراهيم قال: "جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني فقال زيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال. فقال الأعرابي: والله ما أدري: اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)، فألصق وصف الجهل بالكفر والنفاق، فما أصبر القلب القاسي على جهله! وما أحمق مَن سمع نعته وحكمه ولم ينزجر، فلا تكن عالة في زمن التقدم للباطل، وتأخر أهل الحق وضعفهم.

والحمد لله رب العالمين.