تأملات في حجة الوداع (22)

  • 340

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في سياق حجة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذكر خطبة يوم عَرَفَة قال: "ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ" (رواه مسلم).  

في هذا الحديث الجمع بين الظهر والعصر، والقصر فيهما بعَرَفة، بأذانٍ واحدٍ وإقامتين.

وهل هذا الجمع والقصر للنسك أم للسفر؟ قولان للعلماء:

الجمهور على أنه للسَّفَر؛ فعلى قولهم فإن مَن كان دُون مسافة القصر مِن عَرَفَة فعليه أن يُتِمَّ، وأن يُصَلِّي كل صلاةٍ في وقتها.

ومما يُقَوِّي قول أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- بأنه للنُّسُك لا للسَّفَر: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمر أحدًا مِن أهل مَكَّة بأن يُتِمَّ الصلاة أو يصلي كل صلاة في وقتها، وهم -على قول الجمهور- على مسافة دون مسافة القصر؛ لأنها عندهم أربعة بُرَد ونحوها، وإن كان الصحيح أنها أيام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان الطريق إليها يزيد على ثلاثة فراسخ، وهو الصحيح في مسافة القصر؛ لحديث أنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ -شُعْبَةُ الشَّاكُّ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) [يعني قَصَرَ الصلاةَ].

وفي غير مُسْلِمٍ -كما عند البيهقي في السُنَن الكبرى- أن أَنَسًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أجاب بهذا الحديث لما سُئل عن قصر الصلاة بالنسبة لمَن خرج من الكوفة إلى البصرة، ولأجل الشك وضعف رواية سعيد بن منصور: "كان إذا خرج فرسخًا قَصَر الصلاة"؛ قلنا: إن الحدَّ هو ثلاثة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، ومسافة القصر على ذلك: سبعة وعشرون كيلو مترًا تقريبًا، والمسافة بين عَرَفَة ومَكَّة أيام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت قبل امتداد مَكَّة نحو ثلاثين كيلو مترًا، أما الآن فلا، ومع ذلك فلا يزال قول أبي حنيفة أقوى؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمر أحدًا -مِن أهل البوادي حول الحَرَم وعلى طريق الطائف وغيرها- ممَن هو على مسافةٍ أقل مِن مسافة القصر مِن عَرَفَة أن يُتِمَّ، وأن يُصَلِّي كل صلاةٍ في وقتها؛ فالصحيح -إن شاء الله- أن الجمع والقصر للنُّسُك؛ فيَجمع ويقصر كل أهلِ المَوقِف.

ولم يُصَلِّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمعة، مع أن يوم عرفة كان جمعة، وإنما صَلَّاها ظهرًا، ولم يجهر فيها بالقراءة، وأعلَمَ الصحابة أنه يصلي الظهر بهذا أو بغيره، حتى جَزَم جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيرُه بذلك.

ولم يكن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي الجمعة في السفر قط؛ فليس على جماعة المسافرين أن يُصَلُّوا جمعة، إلا لو حضروا الجمعة في مِصرٍ مِن الأمصار فيُصَلُّون تَبَعًا للناس لا استقلالًا.  

وفي الحديث: أنه لا يُشرع صلاة شيء بين الصلاتين المجموعتين -لا نافلة راتبة ولا غيرها-؛ لقول جابر -رضي الله عنه-: "وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"، بل صلاة نافلة بينهما تَقْطَعُ معنى الجمع على الصحيح، وهو قول جماهير أهل العلم، أما الجنازة فلا تَقْطَع على الصحيح.

وفي عدم إخبار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمجموع مَن كان معه أنه يجمع الظهر والعصر، دليلٌ على عدم اشتراط نية الجمع عند الإحرام بالأُولى، كما يشترطه بعض أهل العلم، بل له أن ينوي بعد انقضاء الأُولى طالما لم يطل الفصل بين الصلاتين، حتى يمكنه الجمع ويتحقق معناه ومُسَمَّاه.

وفي قوله: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ": دليلٌ على استحباب الوقوف قرب الصخرات المُفْترشات أسفل جبل الرحمة، دون صعود الجبل، لتكَلُّفِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الانتقال إلى هذا المكان مع كون عَرَفة كلها مَوْقِف، وقد مَرَّ عليها وقال: (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) (رواه مسلم)؛ فدَلَّ على قصد الوقوف في هذا المكان واستحبابه، مع جواز الوقوف في أي بقعةٍ مِن أرض عَرَفَة.

وفي فِعْلِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوقوف بعد الزوال، مع أنه وصل عرفة ضحىً قبل الزوال؛ دليلٌ على أن المشروع هو بدء الوقوف بعد الزوال، وإن كان الإجزاء بأي لحظةٍ مِن ليلٍ أو نهارٍ مِن يوم التاسع وليلة العاشر من ذي الحجة، فيصح الوقوف مِن فجر يوم التاسع إلى فجر يوم العاشر، فمَن أدرك لحظةً مِن ذلك فقد صَحَّ حَجُّه؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا -يعني صلاة الفجر يوم النحر بمزدلفة-، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيضَ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

وفي استمرار وقوفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع الذِّكْرِ والدُّعَاء دليلٌ على أنه ينبغي لكل حاج أن ينشغل مع نفسه بالذكر والدعاء، وليس الدعاء الجماعي كما يفعله البعض، ولو كان لا يصل إلى درجة البدعة -إن شاء الله-، لكن الأفضل أن يكون الإنسان منفردًا منشغلًا بحاله وشأنه، مُتذكرًا ذنوبه، مستغفرًا ربه منها، متفرغًا متضرعًا، منكسرًا ذليلًا.

وهذا الوقوف هو ركن الحج الأعظم؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْحَجُّ عَرَفَةُ) (رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الألباني).

وقد بَيَّنَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضيلة يوم عَرَفة في أحاديث كثيرة:

فهو -ويوم النحر- أفضل أيام العَشْر التي قال عنها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ : (وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري والترمذي، واللفظ له)

وروى ابن المبارك بسنده عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: وَقَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَفَاتٍ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تؤوب -أي: تَغْرُب-، فَقَالَ: (يَا بِلالُ، أَنْصِتِ لِيَ النَّاسَ)، فَقَامَ بِلالٌ، فَقال: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَنَصَتَ النَّاسُ، فَقال: (مَعَاشِرَ النَّاسِ، أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا، فَأَقْرَانِي مِنْ رَبِّيَ السَّلامَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ)؛ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَنَا خَاصٌّ؟ فَقَالَ: (هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى بَعْدَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ وَطَابَ"(أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب، وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا) (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم، وصححه الألباني)، والحديث يدل على استحباب أن يكون الإنسان في هيئةٍ متواضعةٍ، فالأشعث: الذي لم يُسَرِّح رأسه، والأغبر: الذي أصابه الغبار، وكون الإنسان في صفة الإحرام في هيئة الانكسار والتواضع لله -عَزَّ وَجَلَّ- سبب مِن أعظم أسباب المغفرة والمُبَاهَاه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- لملائكته.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني).

وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) (رواه مسلم)، وزاد رزين في جامِعِه: (اشْهَدُوا مَلائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم)، وفي هذا الحديث دليل على دنو الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عشية عرفة، وهذا النزول والدنو خاص بهذا اليوم العظيم، وفي قوله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) دليلٌ على أهمية الإخلاص، وعدم المباهاة أمام الناس؛ فيكون العبد مُخْلِصًا لله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد مرضاة الله ورضوانه، لا يريد الرياء ولا السمعة.

وعن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ. قَالَ: (اجْلِسْ). وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ. فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ). فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا؛ فَابْدَأْ بِهِ. فَأَقْبَلَ عَلَى الثَّقَفِيِّ، فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ أَجَبْتُكَ عَمَّا كُنْتَ تَسْأَلُ، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتَنِي وَأُخْبِرْكَ). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَجِبْنِي عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ: (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالصَّلاةِ، وَالصَّوْمِ). فَقَالَ: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ: (فَإِذَا رَكَعْتَ، فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، ثُمَّ فَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ، ثُمَّ أَمْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ، وَإِذَا سَجَدْتَ، فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ، وَلا تَنْقُرُ نَقْرًا، وَصَلِّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ). فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَإِنْ أَنَا صَلَّيْتُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (فَأَنْتَ إِذًا مُصَلٍّ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ). فَقَامَ الثَّقَفِيُّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُ، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتَنِي فَأُخْبِرْكَ). فَقَالَ: لا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُكَ. قَالَ: (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْحَاجِّ مَا لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقُومُ بِعَرَفَاتٍ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَرْمِي الْجِمَارَ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ؟ وَمَا لَهُ حِينَ يَقْضِي آخِرَ طَوَافٍ بِالْبَيْتِ؟). فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَخْطَأْتَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ: (فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ أَنَّ رَاحِلَتَهُ لا تَخْطُو خُطْوَةً إِلا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ. وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لا يَدْرِي أَحَدٌ لَهُ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (رواه البَزَّار والطبراني وابن حبان في صحيحه، وحَسَّنَه الألباني).

وعن جابر بن عبدالله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَعَلَى نَبِيِّنَا مَعَهُمْ" مِائَةَ مَرَّةٍ؛ إِلا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا مَلائِكَتِي، مَا جَزَاءُ عَبْدِي هَذَا؟ سَبَّحَنِي وَهَلَّلَنِي وَكَبَّرَنِي، وَعَظَّمَنِي وَعَرَفَنِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّي؛ اشْهَدُوا مَلائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا لَشَفَّعْتُهُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ كُلِّهِمْ" (أخرجه ابن عساكر في "فضل يوم عرفة")، ورغم ضعف الحديث؛ إلا أني ذكرته تشجيعًا على هذه العبادات التي ثبت أصلُها بالأحاديث الصحيحة.  

وقول جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ": استدل به جماهير العلماء على وجوب مَدِّ الوقوف إلى الليل لمَن وَقَفَ نهارًا، وهو استدلال قوي؛ لولا حديث: (وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ)؛ فهو دليلٌ على أن أي جزءٍ مِن يوم عَرَفَة وليلة النحر يقف فيه الحاج بعَرَفَة يُجْزِئه ويتم به حَجُّه، والله أعلم.

ولحديثنا بقية -إن شاء الله-.