عِبَر مِن قصص الأنبياء (17)

  • 135

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أ- شعيب -عليه الصلاة والسلام-:

تكررت قصة شعيب -عليه السلام- في القرآن الكريم عقب قصة لوط -عليه السلام-، في إشارة للترتيب الزمني للأنبياء، ويؤيد ذلك تصريح شعيب -عليه السلام- نفسه في قوله -تعالى-: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (هود:89)، ويبدو أن قوم لوط وقوم شعيب -عليهما السلام- كانوا قريبين في الزمان والمكان.

وقصة شعيب -عليه السلام- في القرآن الكريم تكاد تكون قصة نموذجية لمسيرة الدعوات الربانية عبْر الزمن والتاريخ، فالبداية والأولوية في دعوة شعيب -عليه السلام- لقومه -كبقية الأنبياء- هي الدعوة للتوحيد وعبادة الله -عز وجل-، ومِن ثَمَّ كان علاج الآفات الاقتصادية التي تفشت بينهم على قاعدة أن ذلك مِن الفساد المحرم الذي لا يرضاه الله -عز وجل-: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ . وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود:84-86).

وكعادة الدعوات الربانية في أن تجد صدًّا وعناًدا مِن النخبة الظالمة التي ترى في الرسالات النبوية حدًّا لإفسادها وزجرًا عن طغيانها، ولضعف حجتها تهرب للتهديد والوعيد: (قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (هود:91)، ولما ثبت شعيب -عليه السلام- على الحق ولم تزعزعه هذه التهديدات الفارغة تحول الملأ لمحاولة تخويف وتهديد المؤمنين كما بيَّن -تعالى-: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (الأعراف:90)، (لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) (الأعراف:88)، في وقاحةٍ لا تزال متوارثة بيْن أجيال الطغاة بطرد المؤمنين أو إجبارهم على قبول باطلهم!

ورغم ذلك خاطبهم شعيب -عليه السلام- بأن لا يجعلوا القضية شخصية فقال لهم: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي) (هود:89)، لكنهم سخروا منه وطلبوا العذاب: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء:187)، فيوصي شعيب -عليه السلام- المؤمنين به بالصبر: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (الأعراف:87)، فتكون العاقبة: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:91-92)، حتى يدرك المؤمنون أن الزمن يعمل دومًا لصالح منهج الأنبياء ومَن يصبرون على الثبات عليه.