تأملات في حجة الوداع (15)

  • 441

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فمِن أخطر مظاهر الجاهلية المذكورة في القرآن: تَبَرُّج الجاهلية، قال الله -تعالى-: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 32-33).

قال ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ-: "هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنِسَاءُ الْأُمَّةِ تَبَعٌ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُنَّ إِذَا اتَّقَيْنَ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِهُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَلْحَقُهُنَّ فِي الفضيلة وَالْمَنْزِلَةِ. ثُمَّ قَالَ: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)، قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ: تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أَيْ: دَغَل، (وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا): قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا مَعْرُوفًا فِي الْخَيْرِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ: لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زَوْجَهَا. وَقَوْلُهُ: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أَيِ: الْزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ؛ فَلَا تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلات) -أي: غير مُتَعَطِّرات- (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وَفِي رِوَايَةٍ: (وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ)" (تفسير ابن كثير، 6/ 408 - 409).

وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى): قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) يَقُولُ: إِذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ -وَكَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وتغنُّج- فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) وَالتَّبَرُّجُ: أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا، وَلَا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا، وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ، ثُمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّجِ" (تفسير ابن كثير، 6/ 410).

فإذا علمتَ تفسير هذه الآية علمت أن التبرج في زماننا قد صار أسوأ مِن تبرج الجاهلية الأولى بمراحل.

وقد جاء الإسلام بتنظيم وضع المرأة في المجتمع، وبيان العلاقات الصحيحة العفيفة بيْن الرجل والمرأة، والطهارة والعفة هي الأصل الغالب في المجتمع، قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب:53)، فطهارة القلب مِن دنس الشهوات المحرمة وزكاته -بنُمُوِّه واتساعه وانشراحه بالطاعة والإيمان والنور، وحب الله عَزَّ وَجَلَّ والخوف منه- لا يُمكِن أن يَحصل في ظِلِّ تَبَرُّج الجاهلية، والعلاقات الفاسدة الناشئة عن الاختلاط المُحَرَّم بين الرجال والنساء.

ونُقَيِّد الاختلاطَ بـ"المُحَرَّم"؛ حتى لا يتوهم البعض أن كل تواجد للرجال مع النساء في مكانٍ واحدٍ يكون اختلاطًا منهيًّا عنه، فيتنزَّه عن أمورٍ فعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصحابته الكرام رجالًا ونساءً، كصلاة النساء في المسجد، وحضورهن الخطب والدروس، مع أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَخُصُّهُنَّ بيومٍ لَهُنَّ دون الرجال، وإنما الاختلاط المُحَرَّم هو ما تضمن صورة مِن صور الزنا بالجوارح، التي ذكرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ، والْأُذنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْع، وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ، [وفي رواية لأحمد: "وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا اللَّمْسُ"]، وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ [وفي رواية في الصحيح: "وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ") (متفق عليه)، فالاختلاط الذي يتضمن نظرًا أو لمسًا أو كلامًا مع خُضُوعٍ بالقول، وتَلَذُّذٍ من الطرفين بالكلام والسماع للطرف الآخر، أو التقبيل أو المشي معًا، أو إلى الطرف الآخر بغرض التَّلَذُّذ بذلك، وكذا الاختلاط الذي يتضمن خلوة بالأجنبية دون مَحْرَمٍ منها معهما، أو سَفَرًا مع امرأة ليس معها محرم، أو خروج المرأة مُتَطَيِّبَة ليَجِدَ الرجالُ ريحَها؛ فهذا الاختلاط هو الاختلاط المُحَرَّم، وأما ما كان خاليًا مِن ذلك؛ فليس هو الاختلاط المُحَرَّم.

ثم إن مِن تمام حياء المرأة وعِفَّتها: كمال حجابها بتغطية وجهها، قال -تعالى-: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص:25)، قال عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "قائلةً بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَعٍ -أي: جريئة- مِن النساء، وَلَّاجَةٍ خَرَّاجَة -أي: كثيرة الدخول والخروج مِن البيت-".

وإن اختلاف العلماء في فرضية تغطية الوجه أو استحبابه لا يَقدح في الإجماع المنعقد على أنه الأكمل للمرأة والأفضل والأحوط للدين، والأشبه بحجاب زوجات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإنهن بالإجماع كن مغطيات الوجوه وجميع البدن.

ولا يصح بحالٍ أن يُوصَّف النقاب بالإباحة؛ فضلًا عن الكراهية أو البدعية، أو التنطع في الدين! بل لا خلاف في مشروعيته وفضيلته، وأما الحرب عليه فهي في حقيقتها حرب على الحجاب كله، وحقيقتها دعوة للفساد والسير على خطى الغرب في تحويل العلاقة بيْن الرجل والمرأة إلى الحرام، لتصبح المرأة سلعةً فوق كل سلعة أخرى؛ فأنت ترى في الإعلانات المرأة المتبرجة -أشد مِن تبرج الجاهلية الأولى- فوق زجاجة المياه الغازية، وفوق كيس البطاطس المجهزة، وفوق السيارة والهاتف المحمول، والمساكن والمصايف، وكل الأطعمة والأشربة والملابس والطب، بل وفي كل شيء، ثم يزعمون أنهم يحرصون على حرية المرأة وحقها!

وهل حوادث التحرش -بل والاغتصاب- التي صار كشفها حمى في أوروبا وأمريكا اليوم، إلا نتيجة مِن نتائج التبرج والاختلاط المحرم خصوصًا مِن مشاهير الفن والسينما، والكرة والرياضة، والسياسة، وغير ذلك؟!

وقد أظهرت الفضائح التي ينشرونها في هذا الزمان القدر الهائل مِن هذه الجرائم في مجتمعاتهم، مع أنهم يزعمون أن الاختلاط يخفف مِن تلك الشهوات ويهيئ العلاقة الأخوية المزعومة بالباطل بيْن الشاب والفتاة!

وأما الدعوة إلى كشف ما زاد عن الوجه والكفين وخلع الحجاب بالكلية، فهي دعوة تُخالِف نَصَّ القرآن الصريح، قال الله -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:30-31)؛ ومُخَالَفة صريح القرآن المُجْمَع عليه معلومٌ حُكمُها للعامة والخاصة.

إن مِن أعظم أسباب الحفاظ على تماسك الأسرة: الالتزام بأحكام الشريعة فيما يتعلق بشكل التعامل بيْن الرجل والمرأة، والابتعاد عن كيد الشيطان بنزع الثياب وإبداء العورات، قال الله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:27).

إنَّ مِن أعظم أسباب زيادة نِسَب الطلاق في المجتمعات المعاصرة هي ظاهرة التبرج، والمواقع الاباحية، ومظاهر العفن فيما يسمَّى بالفن والأدب، وفي وسائل الإعلام؛ إنها تُدَمِّر الحياة الأسرية الساكنة، وتحكم بالفشل على العلاقة الزوجية الحميمة، وتزهد الزوجين كلًّا منهما في الآخر؛ فيتطلع كلٌّ منهما إلى غير ما أَحَلَّ الله له؛ فتنتهي الحياة الزوجية بالفشل الذريع.

إنَّ فَرض الاختلاط المحرم في المدارس والجامعات والمواصلات مِن أخطر مظاهر الجاهلية في المجتمعات؛ وإن الواجب على الحكومات ووُلاة الأمور الحفاظ على العِفَّة والطهارة والحجاب، والآداب الإسلامية، والنهي عن الفواحش والمنكرات والتبرج وكشف العورات في كل مكان، وتحريم العري، وعقوبة مَن يفعل ذلك؛ إذا أردنا سُمُوَّ الأخلاق في المجتمع، ونشأة الشباب مِن الجِنْسَين نشأة سَوِيَّةً مستقرة، في حياة سليمة قوامها الأسرة القائمة على السكينة والمودة والرحمة، البعيدة عن سبل التبرج والعلاقات المُحَرَّمَة.

نسأل الله أن يُعافي المسلمين والمسلمات مِن كل سوء.