التوازن في البناء (1)

  • 199

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- العلاقة بيْن البلاغ والبناء:

إن التوازن الذي أشرنا إليه آنفًا في البلاغ لدين الله أحد واجبات الوظائف النبوية، التي أَمر بها مَن سار على دربهم، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67)، وقال -سبحانه-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام:19)، قال الربيع بن أنس: "حق على مَن اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو كالذي دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ينذر كالذي أنذر"، وإذا كان متعينًا على مَن تدين بدين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-فظاهر علاقته بالبناء، فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ما جاء برسالةٍ خاصة بقوم أو فئة أو زمان أو جنس أو نوع (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (الأنبياء:106-108).

فالبلاغ أصل يُبنى عليه، ولولا الدعوة والبلاغ ما تدين متدين بمأُثورٍ محبوب لربه؛ إذ لا سبيل لمعرفة مراد له إلا ببيان دينه، ولا سبيل لمعرفة الدين إلا بالدعوة ونشرها، وبيان تفاصيل الشرع فيها؛ لذلك أمر -صلى الله عليه وسلم- بذلك وأرسل رسله عليه، (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب وهو يبعثه: (انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) (متفق عليه).

ذكر ابن هشام -نقلًا عن ابن إسحاق- تحت عنوان: "ذِكْرُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصحابة بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه-: قَالَ: فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ -فِيمَا بَلَغَنِي- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلَّوْا"، وجاءت رواية أخرى -عند ابن إسحاق أيضًا- تدعم صحَّة هذا الخبر، فجاء فيها: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلاً، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلاً تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ".

وهذه روايات معضدة في كتب السير تشير لمعنى هو الأهم، أن أبا بكر أسلم فعمل بدينه مبلغًا، علم أنه مكلف بذلك، وأنه لا يظهر الدين، ولا يعلو البناء إلا بالبلاغ، فهذا البلاغ وهذه الدعوة أصل أصول التغيير والعبودية بهذا الدين، وإنك لتعجب ممَن شط عن الطريق وحاد، وهو يطعن في أهل العلم حين يحافظون على الدعوة ومنافذها وأسبابها، حتى يرددون كلامًا يطعن في هذه الوظيفة وهذا السبيل الذي خطه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!

فيطعنون ويسفهون مِن حيث لا يعلمون أو يعلمون، يقولون: "صنم الدعوة!"، وقائل هذه يريد بناءً وظهورًا وكثرة وأتباعًا، فنقول: "وهل صليتم وعلمتم دين ربكم وسلكتم السبيل -وإن انحرفتم- إلا بالدعوة، فبكفنا عنها تجف معاني الشريعة ويجهل بحكمها، ويعمل بغيرها، فالبلاغ ركن في البناء والعمل، والله المستعان. والحمد لله رب العالمين.