تأملات في حجة الوداع (10)

  • 229

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رضي الله عنه-: "فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا.

حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي؛ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ؛ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي؛ فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ). ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

في هذا الحديث: أن المتمتع يُحْرِم بالحج يوم الثامن مِن ذي الحجة مِن منزله بمكة، وأما القارن والمفرد فهو على إحرامه، ويستحب أن يتوجهوا إلى مِنَى ضُحى ذلك اليوم.

والسُنَّة الركوب إلى مِنَى وبيْن سائر المناسك؛ وهو الأعون للحاج على الذكر والعبادة إن أمكنه ذلك، والمشي مشروع أيضًا، قال -تعالى-: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) (الحج:27)، لكن السُّنة فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الركوب.

ويستحب أن يصلي بمِنَى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ويبيت بها ليلة التاسع ويصلي الفجر بها، وليس كما يفعل البعض أن يخرجوا ليلًا ويتركوا صلاة الفجر بها، ثم يخرجوا منها بعد طلوع الشمس.

وهذه الأمور سُنَّة باتفاق أهل العلم، ليستْ واجبة ولا ركنًا في الحج، ولكن فيها مِن معاني العبودية لله والرِّقِّ له والانتقال بيْن الأماكن والعودة إليها وإن لم نعلم الحكمة التفصيلية، وإن كانت قضية الاتباع والامتثال والانقياد والعبودية حاصلة فيها كلها، وكأن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- زاد في تلبيته: "لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا"؛ شهودًا لهذه المعاني في المناسك كلها.

وتخصيص مكان لاستحباب البقاء فيه في يومٍ معينٍ، وفي أيام أخر يصبح واجبًا، وتخصيص مكان آخر يخصص بركنية الوقوف به في يومٍ معينٍ -فلو فات الوقوف بعرفة مِن فجر يوم التاسع إلى فجر يوم العاشر فقد فاته الحج حتى لو كان معذورًا-؛ هذه التخصيصات والتشريعات خضوع لله -سبحانه- واتباع للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَن استحضر ذلك فيها أفاض الله على قلبه مِن حقائق عبوديته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم بكثير ممَن لم يستحضرها أو استثقل هذه التشريعات وحاول أن يتخلص منها، أما مَن ترك المستحب فقط فقد نقص ثواب عمله ولم يبطل حجّه.

وفي نزول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنَمِرة قبل الزوال مِن يوم التاسع والمرور بالمشعر الحرام دون الوقوف به والنزول به، هدمٌ للجاهلية العنصرية التي كانت قريش سَنَّتْها قبْل الإسلام؛ فضاع عليهم الخير العظيم والرحمة والهداية في الوقوف بعَرَفَة مِن أجل عصبية تفضيلهم على الناس، وقد دلَّ على ذلك قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:199)؛ فلابُدَّ أن نستشعر جميعًا أننا بَشَرٌ مِن البَشَر؛ يستوي كل البشر في هذه الشعيرة العظيمة، في اللباس والزمان والمكان والعبودية لله؛ فلا نتعالى على الناس ولا نتكبر، ولا نُخصِّص أنفسَنا بما لم يخصصنا الله به.

وقريش في الجاهلية كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه؛ فكانوا يقفون يوم عَرَفة بمزدلفة؛ لأنها مِن الحرم -وعرفة ليستْ مِن الحرم-، وكانوا يتركون باقي الناس يقفون بعَرَفة؛ تعاليًا على الناس، كما بَنَوا باب الكعبة مرتفعًا لِئَلَّا يدخلها إلا مَن يريدون، وكما شَرعوا للناس الطواف بالبيت عُرَاة إلا مَن كان الحُمس -أي قريش- أو يطوف في ثيابٍ أعارها إياه واحد مِن قريش؛ فانظر إلى آثار هذه العصبية التي جردت النساء والرجال مِن ثيابهم لتشريعاتٍ باطلة ما أنزل الله بها مِن سلطان!

وإنما حَرَم نفسَه مِن الخير مَن سَنَّهَا أو التزمها أو تَعَالَى على الخَلْقِ بها، وهكذا في كل مَن شرع شيئًا لم يأذن به الله.

فلما حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبْل الهجرة وقف بعرفةٍ مع الناس، وليس مع قريش في المشعر الحرام، كما قال جُبير بن مُطعم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: وَاللهِ، إِنَّ هَذَا لَمِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا؟ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنَ الْحُمْسِ)" (متفق عليه)؛ فالمسلم يهدم هذه الجاهلية في قلبه وفي عمله وفي مجتمعه ما أمكنه ذلك، ولا ينشئ عصبيةً مِن قِبَل نفسه لعائلته أو قبيلته أو شعبه أو قومه؛ فالمسلمون كلهم إخوته، وهم جميعًا عباد الله.

وفي الحديث: استحباب النزول بنَمِرة إلى وقت الزوال، ثم الذهاب إلى بطن عُرَنَة للخطبة والصلاة، ونَمِرَة مكان بجوار المسجد المشهور الآن، قرب المسجد، ومقدمة المسجد هي بطن عُرَنة التي صَلَّى فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد خطبته بها، وباقي المسجد مِن جهة مؤخرته هو مِن عَرَفة، ونَمِرة خَارِجه، والمتاح حاليًا لمَن أراد اتّباع السُنَّة أن ينزل بالمسجد قبْل الزوال ثم يحضر الخطبة والصلاة مع الإمام؛ فهي الفضيلة الأهم في هذا الباب مِن مكان النزول بنَمِرَة؛ إذ لو نزل بنَمِرَة لفاتته الصلاة مع الإمام وحضور الخطبة، مِن شدة الزحام.

وأما خطبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوادي عُرَنة -وهو ليس مِن عَرَفَة- خطبة حجة الوداع؛ فهي منهاج الإسلام، وبناء قواعد الإيمان للمسلمين في كل زمان ومكان.

وتستحق وقفة مستقلة -إن شاء الله تعالى-.