هوان المسلمين (2)

  • 155

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالله -سبحانه- ما مسَّك أحدًا بعقيدة التوحيد إلا رفع عنه الذلة والمهانة، والسقوط أمام أحد، وما مسكه الله -عز وجل- بعقيدة التوحيد إلا ليعظم في عينيه ربه، ويصغر ما في هذه العين ما عدا الله -عز وجل-، وما شرع له النداء لأعظم فريضة لتكبير الله -عز وجل-؛ إلا ليعلم أن ما عدا الله -عز وجل- مِن أدعياء التكبر أذلة مهانون ليس لهم مِن الأمر شيء.

ينادي المؤذن: "الله أكبر" فيستشعر المسلم أن له كبيرًا واحدًا هو الله -عز وجل-، ومَن عدا الله سلاطين كانوا أو أغنياء أو كانوا غير ذلك؛ فهم عبيد أذلة نواصيهم بيد الله -تعالى-، والمسلم صاحب العقيدة الحق يعرف أن أحدًا في الوجود لا يملك له نفعًا ولا ضرًّا؛ إلا الذي خلقه مِن تراب ثم مِن نطفة ثم مِن علقة ثم ضمن له رزقه، ثم أقامه في هذه الدنيا خليفة لله -تعالى- في أرضه.

إن عزة المسلم هي التي فقدها هذه الأيام وبذلك هان؛ هان أمام الأغنياء يتطلع لما في أيديهم، هانت عليه نفسه، لم تعد تلك النفس العزيزة التي كانت لفقراء الصحابة يزهون بها، ويدلون على كبراء كفار قريش، يَرَوْن أنهم مهما هملجت بهم خيلهم ومهما أحاطت بهم مظاهر العزة والسيادة فهم كفرة أنجاس مشركون؛ لذلك كان المسلمون -وينبغي أن يكونوا كذلك- على بصيرة مِن أن الدنيا وإن تنحت عنهم، وأن القدر وإن أصابهم بما أصابهم فلا ينبغي أن يهونوا ولا أن يضعفوا ولا أن يستكينوا، ولا أن يستشعروا ولو للحظة واحدة أن يهنوا وربهم الله، وأن يستذلوا وخالقهم الله، وأن يخافوا أحدًا والأمر كله بيد الله، وأن يطمعوا في أحد ورزقهم في السماء، ولا يملك لهم أحد شيء مِن ذلك لا أدناه ولا أقصاه.

أيها المسلمون... هوان المسلمين على أنفسهم أشد مِن هوانهم على الناس، إن الجندي الذي معه السلاح الفتاك القاتل الذي يدفع عنه صولة أعدائه إذا لم يكن معتزًا بسلاحه وهان عليه سلاحه أوذي رغم السلاح الذي معه، كذلك المسلمون إذا لم يكونوا على يقين أن الله -عز وجل- ما جعلهم مسلمين وما كلفهم بالإسلام إلا ليكونوا أعزة مرفوعة رؤوسهم ولا يخفضونها لأحدٍ، مطمئنة بذكر الله قلوبهم لا يخافون مع الله أحدًا، ما لم يكونوا كذلك أهملوا خير ما يكون فيهم، وتركوا أمنع وأعز ما كان يكفيهم أعداءهم، قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر:10).

إن المسلم يجب أن يعرف -طالما كان مسلمًا- أنه يجب أن يكون عزيزًا، لا ينبغي أن تخضعه نازلة تنزل به، ولا قوة تحيط به، ومهما غلبه شيء؛ فليعلم أن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقد نعى الإسلام على الذين يضعفون ويستكينون، ويعطون الذلة مِن أنفسهم ويتصاغرون أمام كبرياء سلطان أو ثروة أغنياء، نعى عليهم نعيًا شديدًا، بل نعى الله -عز وجل- على الانسان الذي تصيبه مصيبة فيذل ويهون ويضعف، إنما أمره بالصبر والتجمل والاحتمال، وأن يحاول النهوض مرة ثانية؛ فلا يليق بالمسلمين أن يذلوا ولا يهنوا.

ولقد وقعت بالمسلمين مصائب ذكرها الله بالمصيبة في معركة "أُحد" (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:165)، ووقعت بهم جراح ووصلت هذه الجراح إلى جبهة رسول الله، وأوذى أذى شديدًا ونزف مِن وجهه الشريف وفمه دماءً غزيرة، وسقط منهم شهداء، ومع ذلك ينهاهم الله -تعالى- أن يتنازلوا عن كبرياء أنفسهم، وعزة إيمانهم؛ لماذا؟! لأنهم يحملون اسم الله -عز وجل-، وما ينبغي للذي يحمل اسم الله -عز وجل- أن يهين ولا أن يذل، قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.