الشتاء يذكرنا... !

  • 250

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أقبل الشتاء واستعد الناس له استعدادات شتى، وكلها تنصب على أمر الجسد وإصلاح الدنيا، وهناك مَن يذكره الشتاء -مع استعداده أيضًا كهؤلاء- بمعانٍ أخرى ربما غفل أكثر الناس عنها.

فالشتاء فرصة للمؤمن للاستزادة مِن الطاعات لسهولتها ويسرها.

فمن ذلك الصيام: كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، أي غنيمة تُنال بدون مشقة وتعب، تنال صفوًا بغير كلفة؛ وذلك لقصر نهار الشتاء وذهاب الحر.

كذلك القيام: إذ يطول ليل الشتاء فتأخذ النفس حظها مِن النوم، ثم يدرك العبد ورده مِن القرآن والقيام؛ فيحصل مصلحة دينه، وراحة بدنه. 

وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".

وقال الحسن -رحمه الله-: "نعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه".

وبكى معاذ -رضي الله عنه- عند الموت وقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء".

هذا وربما تضاعف ثواب العبد على قيامه بالشتاء لمشقة ذلك عليه كما في الحديث: (رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي: يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِاللَّيْلِ يُعَالِجُ نَفْسَهُ إِلَى الطُّهُورِ وَعَلَيْهِ عُقَدُهُ, فَيَتَوَضَّأُ, فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ, وَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ, وَإِذَا مَسَحَ بِرَأسِهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ, وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ, فَيَقُولُ اللهُ -عز وجل- لِلَّذِينَ وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا, يُعَالِجُ نَفْسَهُ يَسْأَلُنِي مَا سَأَلَنِي عَبْدِي فَهُوَ لَهُ) (رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني).

فالله -عز وجل- يقول للذين وراء الحجاب: (انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا, يُعَالِجُ نَفْسَهُ يَسْأَلُنِي مَا سَأَلَنِي عَبْدِي فَهُوَ لَهُ)!

أرأيتم كيف كانت هذه العبادة مدعاة لمباهاة الملائكة بالعبد؟!

وإذا كانت هذه المعالجة والقيام مِن الفراش ثم الوضوء تشق على العبد في الصيف فإنها تتضاعف في الشتاء، وهذا مدعاة لعظم الأجر؛ إذ الأجر على قدر المشقة، ولعظم أجر إسباغ الوضوء على المكاره وجدنا الملأ الأعلى يختصمون فيه كما في الحديث: (أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: رَبِّ لَا أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ، وَفِي نَقْلِ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغِ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ومِن الأعمال التي تشتد الحاجة إليها في الشتاء كذلك: الصدقة، سيما على الفقراء الذين لا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم برد الشتاء مِن ثيابٍ وكساءٍ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

وأخيرًا: فالشتاء وشدة برده تذكرنا بنار جهنم، كما في الحديث أن النار اشتكتْ إلى ربها: (فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) (متفق عليه). نسأل الله المعونة على طاعته.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "يا مَن تُتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به ويتألم، وهو مصر على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام مَن يندم، ألك صبر على سعيرها وزمهريرها؟! قل وتكلم!".

نعوذ بالله مِن النار، وما قرب إليها مِن قولٍ وعملٍ.