المتاجرون بآلام الوطن!

  • 171

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي الوقت الذي يدعو فيه العقلاء والمخلصون عند وقوع المصائب إلى ضرورة الاصطفاف الوطني واللُحمة الاجتماعية، والبحث عن الأسباب والحلول العملية والواقعية لمواجهة هذا الإرهاب الغاشم والفكر المنحرف الذي يتسبب في إراقة دماء الأبرياء في كل مكان -وآخرهم كان هؤلاء المصلون الطاهرون-؛ نجد بعض المتاجرين بآلام الوطن يحاولون الكيد بخصومهم الفكريين، مستغلين عواطف الجميع الجياشة والملتهبة مِن هذا الحادث الأليم بإلقاء التهم الكاذبة، وحفر العبارات الخاطئة الموهمة في المساحات الإعلامية المتاحة لهم بمنتهى الخفة وعدم تقدير المسئولية!

لذلك فلا عجب أن تجد بعد حادث تفجير "مسجد الروضة" مثل هذه التصريحات المثيرة للفتن بيْن فئات المجتمع، والممهدة لزيادة أتباع هؤلاء التكفيريين مِن الشباب الحانقين على أمثال هؤلاء المتاجرين.

فهذا أحدهم يصرخ ويقول: "بعض منتسبي الأزهر يكفرون الأقباط، والأقباط مضطهدون!".

وكأنه يريدها فتنة طائفية في هذا الوقت الملتهب، والذي قتل فيه مسلمون وهم يصلون لربهم في مسجدهم؛ فهل فرَّق هذا الإرهاب الأسود بيْن مسلم ومسيحي في الاستهداف أم أن الجميع في الوطن متضرر مِن هذا الفكر المنحرف؟!

وهل استطاع هو -أو غيره مِن كنيسته- أن يَمنع طوائف النصارى مِن تكفير بعضهم البعض؟!

فلماذا المتاجرة بآلام الوطن؟!

أم هي أجندات خارجية تُنفذ طبقًا للأوامر؟!

وهذا الآخر الذي يدعو لهدم أصول الدين يقول: "فتاوى ابن تيمية تبيح تفجير الصوفية داخل المسجد!".

ويستدل بكلام مقتطع لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، زاعمًا أنه قد أتى بالبرهان الدامغ، وكذب في ذلك، فقد نقل هذا المدعو "البحيري" قول شيخ الإسلام في كتاب الحسبة مقتطعًا مِن سياقة بقوله: "وَمَنْ لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ مِثْلَ الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ فِي الدِّينِ... "، مدعيًا أن شيخ الإسلام يدعو إلى قتل مبتدعة الصوفية، وهذا كذب صراح، واحتراف للتضليل!

- فقد تجاوز البحيري عمدًا كلام شيخ الإسلام عن جريمتي الفساد في الأرض والتفريق بيْن جماعة المسلمين، وبقية السياق الذي يتكلم شيخ الإسلام فيه عن بدعة الخوارج، وهذا غريب في الاستدلال مِن البحيري، فموضوع الساعة هو محاربة الإرهابيين الخوارج التكفيريين المفسدين في الأرض، ولكنه الهوى! فتجاوز عمدًا الآية التي أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية بعد النص المذكور، والتي تبطل اعتراضه مِن أنه يدعو إلى القتل!

فقد استشهد شيخ الإسلام في سياق ذات النص بقوله -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:٣٢).

وكذلك استشهد شيخ الإسلام في ذات السياق بأحاديث توضح مقصده، حيث جاء النص كاملًا -والذي اقتطعت منه تلك العبارة- كالآتي: "وَمَنْ لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ مِثْلَ الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ فِي الدِّينِ، قَالَ -تَعَالَى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32)، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا)، وَقَالَ: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ) (كتاب الحسبة 1/ 341).

- ثم إن تطبيق الأحكام في الإسلام وإسقاطها على المعيّن باب قائم بذاته، أي منفصل عن باب استخلاص الحكم الشرعي مِن النصوص، فهذا باب له ضوابطه وقواعده التي مِن أهمها استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فالكلام الذي جاء في النص هو توضيح لحكم الفعل مِن ناحية الشرع، أما إسقاطه على معين؛ فهذا منوط بحالٍ المعين، فقد يكون جاهلًا أو متأوّلاً وقد يكون متعمدًا أو معاندًا؛ فلا بد مِن النظر في حال المعين أولاً.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قولاً مفصلًا في هذا المعنى في رسالته: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" حيث يقول: "فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ: مِنْ التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا, وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا, أَوْ وُجُودِ مَانِعها؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ" (رفع الملام عن الأئمة الأعلام 1/60).

والشاهد هنا أن ثبوت الحكم مِن ناحية الشرع أمر، وإيقاعه على شخص ما أمر آخر؛ له شروط وموانع.

ومعلوم أيضًا أن المصلين الذين قُتلوا همْ مِن عموم الناس والأطفال؛ ليسوا دعاة للبدعة، وبدعة الحضرة للمولد إن وجدت فليست مكفرة، ثم إن المنوط بإيقاع تلك الأحكام وتنفيذها هو الإمام وليس آحاد الناس كما ذكر شيخ الإسلام ذاته في غير موضع آخر في ذات الفقرة الكاملة المستدل بها حيث قال: "وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُخْتَصَرَةُ مَوْضِعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُحْتَسِبَ لَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ" (الحسبة 1/ 343).

ويقول أيضًا في الفتاوى: "إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ، فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا، وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ" (مجموع فتاوى ابن تيمية 6/ 394).

- ثم إن لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلامًا جامعًا مانعًا في مجموع الفتاوى عن حرمة الدماء؛ فلماذا يتجاوزه مثل هؤلاء المتاجرون بآلام الوطن؟!

حيث يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)، وَقَالَ: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)، وَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وَقَالَ: (إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ)، وَقَالَ: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)، وَقَالَ: (إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ" (مجموع الفتاوى 3/ 283).

فهل بعد هذا يدعي هذا المتاجر أن شيخ الإسلام ابن تيمية يدعو لقتل الصوفية، وهو مِن أكثر الناس إنصافًا معهم، وتوضيحًا لمناهجهم، ولم يصرِّح في موضعٍ واحدٍ بقتلهم.

ثم يأتي ثالثهم العجوز ليكمل ثالثة الأثافي، والمتاجرة بآلام الوطن؛ فيحترف تصفية الحسابات قائلًا: "السلفيون أصل كل الشرور!".

فهل تناسى هذا العجوز دور "الدعوة السلفية" في الخروج بالبلاد مِن الفتن المتتالية، وانحيازها للوطن وأبنائه طبقًا للقواعد الشرعية في كل المواقف الفاصلة؟!

أم تناسى تلك الدروع التي صنعها أبناء الدعوة السلفية بأجسادهم لحماية الكنائس والمساجد، والفصل بيْن بعض المتظاهرين والشرطة لمنع الصدام والدماء إبان الثورة؟! أم تناسى مشاركتهم مع أبناء وطنهم في حماية المنشآت والمؤسسات العامة للبلاد أثناء الفوضى؟!

إلى غير ذلك مِن المواقف التي لن تنمحي مِن عقول المصريين مهما حاولوا تشويهها!

- أم أنه في الحقيقة يتذكر ذلك جيدًا، لكنه لا يستطيع أن يقدِّم مصلحة البلاد على مصلحته الشخصية أو تعصبه الفكري لطريقته؟!

فيا أيها المتاجرون بآلام الوطن: "قليل مِن العقل وإعلاء لمصلحة الوطن... هداكم الله".