يداك أَوْكَتَا وفوك نفخ!

  • 522

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذا مثل تضربه العرب لكل مَن كان سببًا في هلاك نفسه، وأصل هذا المثل: أن رجلًا كان بجزيرةٍ، وأراد أن ينزل إلى الماء وهو لا يعرف العوم، فعمد إلى قِربة مِن الجلد فنخفها وشدها بوكاء -أي ربطها بخيط أو حبل، وكل ما يربط به يسمى وكاء- وأراد أن ينزل بها إلى الماء، فنهاه صاحبه، فأبى، فلما كان في عرض الماء انفك الرباط وخرج الهواء مِن القربة، وأخذ الرجل يستغيث، فقال له صاحبه: يداك أوكتا -أي أنتَ الذي ربطت القربة-، وفوك نفخ -أي أنتَ الذي نفختها-؛ فأنتَ سبب هلاك نفسك، فصارت مثلًا! (وقيل في سببه غير ذلك، انظر كتاب الأمثال لابن سلام، ص:331).

كثيرون اليوم جديرون بأن يُقال لهم هذا المثل!

ودعني أبيِّن لكَ: عندما يطلق شخص لسانه في غيره بالسب والثلب، ويبدِّعهم ويتَتَبَّع عوراتهم، ويُلبس ذلك لباس العلم ومسوحه؛ فيدعي أن هذا حق العلم وواجبه، ومقتضى صيانة العلم ولازمه، وتُديم نصحه؛ فلا يرعوي! ثم هو هو متى حصل هذا مِن غيره -وهو حاصل لا محالة- طفق يملأ الدنيا صياحًا؛ يشتكي عقوق الطلاب، وغيرة الأقران، وكم له مِن أفضالٍ عليهم، وأنه ليس بمعصومٍ، وأين الوفاء وأين الأدب، و... و... !

هذا شخص يداه أوكتا وفوه نفخ.

أجل! فكثيرون ممن يشتكي عقوق طلبة العلم اليوم: هم مَن علموهم هذا العقوق! فهم أنفسهم مَن علموهم الوقوع في أعراض العلماء الكبار بدعوى صيانة العلم وحفظ الدين!

فاليوم يصطلون بنارٍ همْ مَن أوقدها.

وإن مَن يطلق لسانه اليوم بالسب والطعن في أعراض المشايخ وطلبة العلم ممن يخالفه في رأي أو اجتهاد، سيشرب مِن هذا الكأس لا محالة، شاء أم أبى؛ فتلك هي سنة الله في الحياة.

وليس هذا دعوة إلى تقديس أحد أو إلى قبول باطل، لكن ينبغي أن يكون بيان الخطأ ممن هو أهل له، ممن يقَدِّم حسن الظن دون إفراطٍ أو تفريط، ويلتزم بالضوابط الشرعية في النصيحة أو النقد أو الخلاف أو بيان الخطأ أو غير ذلك.

ولتعلم أيها القارئ الكريم أن هذا يتطلب أمرين لا غنى عنهما: أحدهما: المعرفة الحقة بالشرع. والثاني: المعرفة بالواقع، وينبغي لمَن لم يكن هذا حاله أن يُربع على نفسه، فإنه متى تكلم وهو فاقد لأحدهما فهو واقع في الزلل لا محالة.

وبرهان ذلك: ما يملأ مواقع التواصل اليوم -مع كل حادثٍ يحدث- مِن طوفان السب والطعن، واللمز والسخرية، والافتراء والاستهزاء، والتهويل والتهوين والكذب، مع إعجاب كل ذي (حساب فيسبوكي) برأيه!

وهذا والله نذير شؤم، وهلاك مبين.

والله المستعان.