آداب العيد بيْن الشريعة والاصطفاء

  • 204

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الأعياد مِن خصائص كل عقيدة، ولا ترى أصحاب طريقة وملة إلا ولهم ما يخصهم مِن الأعياد، وإن الله -عز وجل- فضل هذه الأمة على سائر الأمم، وجعلها سابقتهم مع تأخرها عنهم، قال الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).

وهذا التكريم والتفضيل إنما يقع في التشريع أيضًا؛ فلقد فضَّل الله أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في تشريعها، بوضع الإصر والأغلال والتشديد الذي ابتلي به مَن قبْلنا، (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:163)، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54)، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).

فله الحمد -سبحانه- أن اصطفانا مِن خلقه، وفضلنا على عباده؛ فأوجب شكره وإظهار شعائره، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما اختص به عمن قبله: (وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً، نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال: (أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ) (رواه أحمد بسندٍ حسن).

فهذا تفضيل في الدنيا والآخرة؛ فأيامنا وأعمالنا وعباداتنا مِن أسباب تفضيلنا ورفعتنا، فلا يصح أن يُقابل المنعم بالجحود أو الكفران، بل يجب إظهار شكره ونعمائه.

- إن الأعياد مِن جملة التشريعات التي شرعها الله -عز وجل- للمؤمنين مِن عباده، فهي على سبيل التوقيف لا الابتداع، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

فاستبدال الله دليل على اختصاص تشريعه له، وهذا مِن مظاهر تكريمه وتفضيله، فعيد المسلمين الأسبوعي مِن أسباب تفضيلهم وهو يوم الجمعة، فكذا ختام مواسم الطاعات مِن رمضان وعشر ذي الحجة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ -قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ- فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى) (رواه مسلم).

والذي يُظهِر هذه الخصوصية، وتميز المسلمين بهذين العيدين، قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: (يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا) (متفق عليه)، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني). (عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ): (الاختصاص).

وسُمي العيد مِن العود، ونرجو الله أن يكون على الأمة عودًا أحمد، قال ابنُ الأَعرابيِّ: "سُمِّيَ العِيدُ عِيدًا؛ لأَنَّه يَعُودُ كلَّ سَنَةٍ بِفَرَحٍ مُجَدَّدٍ"، فعوده على المسلمين يجدد لهم مظاهر الفرح بعد الطاعة، وتقوية الصلات، والتوسعة على الأهل والأولاد.

ومِن جملة هذه الآداب والسنن التي تكون في هذا اليوم:

1- التكبير: قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185)، فمِن الشعائر الظاهرة والشكر الظاهر لنعم الله بإتمامه الصوم أن يُظهِر المسلمون التكبير في أماكنهم، وطرقهم، وأسواقهم، ومساجدهم ومصلياتهم، حتى يشرع إمامهم في الصلاة، وقد تعددت هذه الصيغ عن السلف في التكبير بما لا نزاع فيه ولا افتراق.

وأصحه وأثبته ما قال الحافظ في الفتح: "وأما صيغة التكبير: فأصح ما ورد فيه، ما أخرجه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان، قال:  كبروا الله: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى -وهو قول الشافعي-، وزاد: ولله الحمد. وقيل: يكبر ثلاثًا، ويزيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له... إلخ. وقيل: يكبر ثنتين بعدهما: لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، جاء ذلك عن عمر وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها".

- ووقته: جمهور العلماء على أن التكبير في عيد الفطر مِن وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة، قَالَ الشّاَفعيُّ -رحمه الله-:  "فإذا رَأَوْا هِلاَلَ شَوَّالٍ أَحْبَبْتُ أَنْ يُكَبِّرَ الناس جَمَاعَةً وَفُرَادَى في الْمَسْجِدِ، وَالأَسْوَاقِ، وَالطُّرُقِ، وَالْمَنَازِلِ، وَمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ -في كل حَالٍ- وَأَيْنَ كَانُوا، وَأَنْ يُظْهِرُوا التَّكْبِيرَ، وَلاَ يَزَالُونَ يُكَبِّرُونَ حتى يَغْدُوَا إلَى الْمُصَلَّى، وَبَعْدَ الْغُدُوِّ حتى يَخْرُجَ الإِمَامُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يَدَعُوا التَّكْبِيرَ".

2- التهنئة: يُستحبُّ أن يهنأ المسلمُ أخاه المسلمَ بالعيدِ، فعن محمد بن زياد قال: "كنتُ مع أبي أمامة الباهلي وغيره مِن أصحاب النبي  -صلى الله عليه وسلم- فكانوا إذا رجعوا مِن العيد، يقول بعضهم لبعض: تَقبَّل الله منا ومنك"، وقال أحمد: "إسناد حديث أبي أمامة جيد"، وعن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل منا ومنك". قال الحافظ: "إسناده حسن".

3- الأكل يوم الفطر قبْل الذهاب للصلاة: عن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا" (رواه البخاري). وعن ابن المسيب قال: "كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأكُلُونَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاَةِ, وَلاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ" (رواه البيهقي بسندٍ صحيح).

4- الاغتسال والتطيب ولبس أفضل الثياب: وهذا مشروع لكل اجتماع، فإن كان يوم العيد اشتد استحبابه وتأكد، "كان ابن عمر -رضي  الله عنهما- يغتسل يوم الفطر قبْل أن يغدو إلى المصلى"، وعن سعيد بن المسيب قال: "سنة الفطر ثلاث: المشي إلى المصلى، والأكل قبْل الخروج، والاغتسال".

5- الذهاب للمصلى، فإن لم يكن صلوا بالمسجد، فيصلون ركعتين خلف الإمام قبْل الخطبة: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ" (متفق عليه).

ويستحب للإمام تخيير الناس في الجلوس للخطبة أو الانصراف، فعن عبد الله بن السائب -رضي الله عنه- قال: حَضَرْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى بِنَا الْعِيدَ، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ قَضَيْنَا الصَّلَاةَ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

6- عدم مشروعية صلاة ركعتين قبْل وبعد العيد: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا، وَتُلْقِي سِخَابَهَا" (رواه مسلم)، وعن جابر بن سمُرة -رضي الله عنه- قال: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِيدَيْنِ، غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ" (رواه مسلم).

7- مخالفة الطريق: فمِن السُّنة مخالفة طريق الذهاب للمصلى لطريق الرجوع، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ" (رواه البخاري).

8- التوسعة على الأهل وإدخال السرور عليهم: فعن عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَقَالَ: (دَعْهُمَا)، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا. (متفق عليه). وفي رواية: (لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فيصل رحمه، ويتزاور أصحابه ويتفقدهم، ويتصدق على الفقراء ويغنيهم عن السؤال في هذا اليوم.

والله أسأل أن يجعل أعيادنا فرحًا بطاعته، ورفعة لدرجاتنا.

والحمد لله رب العالمين.