الناس بين التعلق بالمنهج والتعلق بالأشخاص

  • 221

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد,

مما يجب على العبد أن يعلمه: أن العصمة إنما جعلها الله للأنبياء المؤيَّدين بالوحي، أما الأشخاص فمهما بلغوا في العلم والتقوى والإمامة فليسوا بمعصومين, قال شيخ الإسلام: «فأما الصِدّيقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين», إن الحق لا يُختزل في شخص من الأشخاص، ولكنه المنهج المُستقى من الكتاب والسُنّة الصحيحة وآثار السلف الصالح، ولهذا عرَّف الإمام مالك أهلَ السُنّة بأنهم: «ليس لهم لقب يُعرفون به؛ لا جَهْمي ولا قَدَري ولا رافضيّ», قال علي -رضي الله عنه-: «إن الحق لا يُعرف بالرجال».

يقول شيخ الإسلام: «ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب بعينه غير الرسول في كل ما يوجِبه ويُخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخَذ من قوله ويُرَدّ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واتباع شخص لمذهب بعينه، لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ، وليس هو ما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كلُّ أَحَدٍ عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله، فيفعل المأمور ويترك المحظور».

ويقول ابن القيم: «اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع, لا يلتفت إلى أقوال من سواه -بل ولا إلى نصوص الشارع- إلا إذا وافقت نصوص قوله, فهذا والله هو الذي أجمعت الأُمّة على أنه مُحَرَّمٌ في دين الله, ولم يظهر في الأُمّة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة».

لقد وجه الله المسلمين لأن يُوثّقوا صِلَتَهم به تعالى، وأن تكون علاقتهم قوية به وبمنهجه, وأن لا يتعلقوا بمخلوق؛ ولو كان النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-, فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين﴾, قال ابن القيم: «والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا وقُتِلوا», وقال ابن الجوزي: «وفي هذه اللفظة (الشَّاكِرِينَ) أقوال، أحدها: «أنهم الثابتون على دينهم»، قاله علي، وقال: «كان أبو بكر أمير الشاكرين».

عن ابن عباس: «أن أبا بكر -رضي الله عنه- خرج وعُمَرُ يكلم الناس، وقال: اجلس يا عُمَر, ثم قال: أما بعد: فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌّ لا يموت, ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... ﴾ الآية.

وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على التعلُّق بالمنهج، ويوصيهم بالتمسك بكتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، لا أن يتعلقوا بشخصه, فقال واعظًا لهم وموصيًا إياهم: « فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنّتي، وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضّوا عليها بالنواجذ», فعَلَّقَهم -صلى الله عليه وسلم- بمنهجه وسُنّته لا بشخصه وذاته.

إن التعلُّق بالأشخاص قد يكون سببًا في التعصب والغلو المذموم, والتساهل في ارتكاب الأخطاء بالتقليد والطاعة العمياء, بل قد تكون سببًا -والعياذ بالله- في الانتكاسات والرِدّة عن الحق, قال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن رجلٌ رجلًا دينه فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مُقَلِّدًا لا محالة فَلْيُقَلِّد الميت ويترك الحي, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة».