حياة العباد بين الحرية والاستعباد

  • 176

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد,,

لقد جاء الإسلام من أجل تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله, وجعل العبودية لله وحده، ثم الخلق بعد ذلك أحرار مع من سواه، فالحرية من أعظم مقاصد كلمة (لا إله إلا الله), قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾, وقال عن أم مريم: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ قال ابن كثير: «أي: خالصًا مفرغًا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس», فالحرية: هي التوحيد الخالص لله.

قال صلى الله عليه وسلم: «إنما السيد الله»، الذي له السيادة المطلقة, فليس للخلق على بعضهم سيادة ولا طاعة ولا خضوع إلا بإذن الله, فالحرية الحقيقية في ميزان الشرع، هي حرية القلب وعبوديته؛ فمن أخلص عبوديته لله، وخلص من عبودية الخلق، فهذا هو الحر حقيقة، وأما من ترك عبادة الله سبحانه، فلا بد أن تستعبد قلبه عبودية غير الله، حسب ما تعلق به قلبه من العبوديات لغير الله.

فمن تعلق قلبه بمخلوقٍ وذل له, وعلق نفعه وضره عليه، فقد وقع في الرق والعبودية له، وأصبح أسيرَ القلب لمن تعلق به، ولو كان فيما يظهر للناس سيدًا حرًّا طليقًا، إذ المحبوس حقيقةً من حبس قلبه عن عبادة ربه, والمأسور من أسره هواه, فالذين ينادون بالحرية، وينشدونها في نظم جاهليةٍ بعيدةٍ عن مصدر الحرية الحقيقي ـ وهو عبادة الله وحده لا شريك له ـ إنَّما هم ضالّون مُضِلّون، إذ لا حرية حقيقية إلَّا في نقل الناسِ من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده.

والواقعُ المرير الذي نعيشه أكبر دليل على أن كثيرًا من الناس أصبحوا عبيدًا للأهواء والشهوات والعباد، واستبدلوا بعبادة الله -التي هي كمال الحرية- عبادة غيره، حيث الرق الحقيقي, حينما انحرفت الفطرة, وامتدّ الغزو والعدوان على حياتنا وديارنا ينفث سموم الشعارات المزخرفة المضللة من «معاني الحرّية», التي أَطلقت للفرد حرّيته دون ضوابط, يمارس الكفر بالله تعالى, والطعن في الدين وشرب الخمور, وممارسة الظلم والفجور, ونشر التبرج والعري والتفلت من كل فضيلة باسم الحرية.

يقولُ شيخ الإسلام: «الرق والعبودية في الحقيقة: هو رقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلبُ عبده، ولهذا يقال: العبدُ حُرٌ ما قنع، والحرُ عبدٌ ما طمع، وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائهِ لقضاءِ حاجتهِ، ودفعِ ضرورته، قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجبُ عبوديته له، فيأسهُ منه يوجب غنى قلبه عنه، فإنَّ أسرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإنَّ من استعبد بدنهُ واسترق وأسر، لا يبالي ما دام قلبهُ مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنهُ الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير الله، فهذا هو الذلُ والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، فالحرية حريةُ القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس».