رخصة الثقة

  • 1051

روى ابن عبدالبر بإسناد صحيح عن معمر أنه قال " إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد "، وروى بإسناد حسن عن سفيان الثوري أنه قال: " العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد " [جامع بيان العلم وفضله (1/785)]

هذا الأثر المروي عن سفيان الثوري ومعمر بن راشد، يدلك على أن العلم ليس هو أن تشدد في ما يجوز لك، بل هذا - عند العلماء - هو الورع، وهو مجال رحب، إذ إن الورع هو أن تترك ما لابأس به حذراً مما به بأس، وهو أمرٌ مشروعٌ لا شك في ذلك، لكن الورع لا يُفتى به، وهذا الأثر فيه إنكار على الذين يفتون الناس بالورع، وكلمة العلماء مطبقة على ذلك، وإنما الواجب على المفتي أن يبين الحكم الشرعي في المسألة كما هو، فالعالم الحق هو من يعرف الحدود والضوابط، ويدرك الفروق بين ما يحل وما يحرم، فلا يحرم الكل تورعاً؛ فيوقع السائل في الحرج والمشقة، وربما لا يتمكن السائل من الالتزام بهذا الورع فيقع في الحرام،  وكذلك لا يبيح الكل تساهلاً؛ فيوقع السائل في المحرم والفتنة، وإنما يدله على ما يجوز له من غير تساهلٍ وتفريط، أو إفراطٍ وتغليظ، وهذا معنى قوله " من ثقة " إذ كما أن التشديد يحسنه كل أحد؛ فالتساهل أيضاً يحسنه كل أحد،

ووضوح هذه القضية عند علمائنا المتقدمين أشهر من أن يدلل عليه، بل وحديث النبي ﷺ يدل عليه، فالنبي ﷺ القائل (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) [رواه ابن حبان من حديث ابن عباس (355) وصححه الألباني] هو القائل أيضاً: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) [رواه مسلم من حديث أبي هريرة (1337)]، وهو القائل أيضاً: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات: وقع في الحرام) [متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. البخاري (52) ومسلم (107)].

ولا يخفى أن الشريعة أتت بمصالح العباد في العاجل والآجل {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]

وقد أدرك العلماء قديماً هذه القضية جيداً وعبروا عنها بمقاصد الشريعة، وبينوا أن الشريعة أتت لحفظ الدين والنفس والعرض والمال والنسل فما يحفظ هذه الأمور كان في الشريعة ما يرشد إليه، وما يهدر هذه الأمور كان في الشريعة ما يمنع منه.

وقد أشار العلماء في تآليفهم الأصولية إلى ذلك الأمر، لكنهم لم يوسعوا الكلام فيه، إلى أن جاء الشاطبي فوسع الكلام في المقاصد، فبين كيفية ارتباط قضايا الشرع ببعضها، وفصَّل في كيفية تحقيق الشريعة لتلك المقاصد، وبيَّن رتب هذه المقاصد، وما يندرج تحت كل رتبة، وبين كيف أن الترجيح الذي حصل من العلماء قديماً بالنظر إلى المصالح والمفاسد: هو عين تحقيق مقاصد الشريعة.

ولقد كانت كتابة الشاطبي في هذا الباب فتحاً جديداً في التأليف والكتابة؛ حتى اشتهر الشاطبي بأنه رائد علم المقاصد.

وقد بيَّن الشاطبي كيف يكون الترجيح باستعمال المقاصد، ووضع بعض القواعد والضوابط في هذا الباب، وهو في الحقيقة لم يخرج عما قرره العلماء السابقين في هذا المضمار، بل - فقط - بيَّن وأوضح وقعَّد.

وكثيرون ممن جائوا بعد الشاطبي حاولوا اقتفاء أثره بالتأليف في هذا الباب: فكثرت الكتب والمؤلفات في هذا الباب، لكنها كلها لا تخرج عما قرره الشاطبي في كتابه الموافقات.

وفي العصر الحديث: كثرت الأبحاث التي تتكلم عن المقاصد، وتتناول مافعله الشاطبي بالتقييم والنقد، أو التأييد والنسج على منواله، فكان هذا الباب مجال رحب للكثير من الدراسات المعاصرة.

لكن مع ضغط المجتمع المتأثر بمظاهر العلمانية، والانفتاح على الغرب، وبسبب بعض الممارسات الخاطئة - أحيانا- من بعض أصحاب التدين: ظهر اتجاه يهون كثيراً من التساهل في الالتزام بالأحكام الشرعية، ويبحث عن التوافق مع المجتمع المتساهل ما أمكنه، وقد وجد هذا التيار في علم المقاصد بغيته، إذا النظر بادي الأمر في هذا الباب - من غير المتخصص - يسهل عليه التسوُّر على ظاهر النص، بل وربما يجد فرجة هنا أو هناك تسيغ له أن ينفك من سلطان النص إلى ما يريده ويهواه.

لذا فالدعوة على إحياء فقه المقاصد أو "فقه الاستطاعة" ينبغي أن يكون معناها الرجوع إلى ما تقتضيه النصوص الشرعية، وألا يكون ذلك بمعزل عن العلماء الراسخين، لئلا يحصل انحراف عن الجادة، وإذا كان البعض قد شدَّد في جانب من الجوانب، وأفرط في بيان ما يتناوله النص، فليس هذا مبرراً لأن يكون الحل هو التفريط في الالتزام بمدلول النص، فكلا الأمرين انحراف عن الجادة، وتنكب لهدي النبي الأمين ﷺ.

ثم إن هذا الباب من العلم - علم المقاصد -  يستدعي من الناظر فيه أن يكون متضلعاً من علوم الشريعة، مطلعاً على الأدلة الشرعية والآثار إطلاعاً واسعاً، محيطاً بأقوال العلماء وتعليلاتهم، كما أن الترجيح به مسلك وعِر، لا يقدم عليه إلا أفذاذ العلماء، ومع ذلك يتسوُّر هذا الباب - اليوم - من لا همَّ له إلا الانفلات من سلطان النص، فيبرر الانحراف بدعوى المقاصد، فيحرف الأحكام، ويأتي في دين الله تعالى بما ليس له به سلطان.

وهذه والله محنةٌ عظيمةٌ، أشد من مجرد التفلت من الأحكام الشرعية، فلربما يضعف إيمان العبد فيقصر عن التزام الهدي النبوي؛ لكنه يعلم من قرارة نفسه أنه ضعيف، فيظل الحق حقاً - في نفسه - وإن لم يفعله، ويظل الباطل باطلاً وإن أقدم عليه، أما هذا الذي يبرر لتساهله بأن هذا من فقه المقاصد، وأن هذا هو جوهر النص: فإنه أشد سوءاً وأعظم خطراً، إذ إنه يرى الطاعة معصية، والمعصية طاعة، فيلتبس الحق بالباطل، وهذا تحريفٌ للدين، واجتراءٌ على شرع الله المتين.

أيها القارئ الكريم: إن الشريعةً معصومةٌ من التضارب والتعارض، لأنها كلها من عند الله، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، والمقاصد ما دامت من الدين فلن تتعارض مع النصوص الشرعية قطعاً، فالكتاب والسنة من عند الله، والمقاصد من شرع الله، فليس ثمة تعارض البتة بين المقاصد والنصوص، وإنما يقع التعارض في ذهن الناظر فقط، وإنما وضع العلماء قواعد الترجيح والجمع: دفعاً للتعارض المتوهم، وبيان لكيفية ذلك، فشرع الله سالم من التعارض والتضارب، ولله الحمد والمنة

 أيها القارئ الكريم: الحذر الحذر ! وعليك بأهل العلماء الراسخين، يبينون لك ما أشكل عليك، والله هو الهادي إلى كل خير، وهو نعم المولى ونعم النصير.