مشاهد الإيمان.. في وداع رمضان

  • 262

إن الحمد لله نحمده ونستعينه  ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله و صحبه و سلم، أما بعد :
 
فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، فإنها وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "، " يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ  وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ".
 
عباد الله، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أعاذنا الله و إياكم من البدعة ومن الضلالة ومن النار.
ثم أما بعد: عباد الله  .
 
ها هو الشهر العظيم أوشك أن يفارقنا.. لم تتبقَ إلا أنفاس قليلة طاهرة، من أنفاس هذا الزائر الخفيف، الذي طل علينا إطلالة كسحابة صيف.. ثم إذ هو الآن ينقشع عنا ويفارقنا..
عباد الله.. حال العبد المؤمن في هذا الوقت أنه يتقلب بين مشاهد إيمانية أول هذه المشاهد هو هذا المشهد العظيم.

(1)  مشهد الرحيل: 

هذا المشهد عباد الله، يشهده العبد بقلبه، حينما يرى سرعة انقضاء الدنيا، قال الله تبارك وتعالى "أيّامًا معدودات"، على القول بأنها أيام رمضان، سبحان الله!! 
كيف انقضت هذه الأيام الطاهرة المباركة من بين أيدينا؟، يتعظ العبد بانقضاء الدنيا وفوات عمره وسرعة حساب ربه تبارك و تعالى  فإن الله عز وجل يقول في كتابه " يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا " -أعدلهم طريقةً يقول حين يعاين عذاب الله و يعاين الآخرة-  "إن لبثتم إلا يومًا"، قال الله  عز وجل "قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا  لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " .
 
فسرعة انقضاء الأيام وفواتها، تذكر العبد بوقوفه بين يدي الله تبارك وتعالى، "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ  كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ".
 
وهكذا كان يُربي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حتى لا يركنوا إلى الدنيا ويطمئنوا بها..
 مر النبي صلى الله عليه وسلم يوما على عبد الله بن عمر فوضع يده على كتفه رضي الله عنه فقال "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".
 
 
و كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء و إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح"، والنبي هو القائل "بعثتُ أنا و الساعة كهاتين" و أشار بإصبعيه السبابة وما يليه، تعلم منه أصحابه ذلك.
 
 خطب عتبة بن غزوان رضي الله تبارك و تعالى عنه، خطبة في يوم من الأيام  فقال "إن  الدنيا قد آذنت بصُرم  أي بانقطاع  وولت حذّاء  أي مسرعة،  ولم يبق منها إلا صُبابة -وهو ما يتبقى من الماء في نهاية أو أسفل الإناء  كصبابة الإناء يتصابها صاحبها- و إنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم  أي بخير أعمالكم "، رواه مسلم.
هكذا كان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم  ينظرون إلى الدنيا على حقيقتها كما هي عند ربها  تبارك و تعالى،  فآثرو الباقي على الفاني، قال الله "بل تُؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير وأبقى ".
لابد أن يعيش العبد مع هذا المشهد في هذه الأوقات اليسيرة المتبقة ويسأل نفسه ماذا قدم ؟!  
ماذا سيقول لربه حينما يقف بين يديه فيسأله عن الكبير والصغير؟!
ماذا سيفعل حين ينشر له كتابه ويقول" مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا *  وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا * وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " ماذا سيفعل في هذا الوقت؟! 
 
 أما المشهد الثاني فهو:

(2)  مشهد الوجل:
 
 وهذا خاص بعباد الله، الذين عبدوا الله تبارك وتعالى في هذه الأيام الخوالي وأطاعوا ربهم سبحانه، فيا من أطعت الرحمن وصمت رمضان واجتهدت في الصيام، وأُجهدت في القيام، وقرأت القرآن، ودعوت الرحمن، لابد أن تكون على وجل لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين، قال الله عز وجل  "إنما يتقبل الله من المتقين"، وقال الله  سبحانه و تعالى " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين".

فإذا علمت ذلك عبدالله، أن الله  عز وجل  لا يتقبل إلا من المتقين، وأن التقوى في القلب، ولا يعلم حالك إلا الله، كنت على وجل، على خوف مقرون بعلم ، هذا العلم هو العلم بأسماء الله و صفاته الكريم العظيم الكبير الشكور الغني الحميد التواب الغفور، و علم بسوء عملك و تقصيرك في حق ربك  سبحانه و تعالى، و أنك ما أتيت ربك  عز و جل  إلا ببضاعة مزجاة لا يصلح مثلها لله تبارك و تعالى، فيكون حالك كحال إخوة يوسف حينما دخلوا عليه، قال الله: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا  إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ"، فليكن حالك كذلك عبد الله لعلمك بآفات نفسك وعيوبك و تقصيرك في حق ربك، وهذا حال المسارعين في الخيرات السابقين إلى رب البريات، الذين قال الله في شأنهم " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ "..
روى الإمام أحمد و غيره بسند صحيح عن عائشة أم المؤمنين  رضي الله عنها وأرضاها  (قلت يا رسول الله أهؤلاء الذين يزنون و يسرقون و يخافون ) فقال (لا يا ابنة الصديق .. إنهم الذين يصومون و يصلون و يتصدقون ويخافون ألا يتقبل الله منهم )!!. 

فعليك أن تدعو الله  عز وجل أن يتقبل منك هذه الأعمال الصالحة، التي لو قبل الله عملاً منها أو سجدة أو تضرعًا بين يديه، ربما صرت عبدًا فرحًا طيبًا طيلة حياتك بفضل من الله  عز و جل.
 

أما المشهد الثالث عباد الله فهو:
(3) 
 مشهد التوحيد:

 لابد أن تشهد أن الخير كله بيد الله تبارك و تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم  (والخير بين يديك و الشر ليس إليك)،  الله  عز و جل  "هو الذي خلقكم و ما تعملون"، وهو الذي وفقكم لطاعته.

كم من مخذول مرت عليه أيام هذا الشهر ولياليه  وهو مُبعد مطرود من رحمة الله؟
 "هو اجتباكم".. هو اصطفاكم.. الله تبارك و تعالى اجتباك واصطفاك، الله تبارك و تعالى يسرك لليسرى.. (فسنيسرُه لليُسرَى)، اختارك من بين هؤلاء لتقوم بين يديه.. شرف أيما شرف ..أن تكون عبدًا لله .. أن تسجد بين يديه .. أن ترفع يديك لتطلب من الملك تبارك و تعالى .. تشهد هذا بقلبك.. تشهد أن الله هو الذي خلقك و خلق عملك  وهو الذي وفقك.. والله لولا الله ما اهتدينا .. كما قال النبي  صلى الله عليه و سلم  في يوم الأحزاب "و الله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا و لاصلينا فأنزلن سكينة علينا  وثبت الأقدام إن لاقينا"، " وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ".

وأهل الجنة حينما يدخلون الجنة يقولون " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" .. فمن شهد هذا  بقلبه  لجأ إلى الله وحده و فقد الأمل في مخلوقيه و توجه إلى الخالق تبارك و تعالى " ما من دابة إلا هو آخذبناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" ..يكون حاله كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم   يقول في كل صباح و مساء "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا"  لأنه علم أن الأمور بيد الله فلا تطلب عبدالله ماهو في ملك الله من مخلوق من مخلوقات الله ألم تعلم أن الله تبارك و تعالى هو الغني و أنت الفقير إليه " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ  وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ " .."فتوكل على الله العزيز الرحيم" و أنزل حاجتك به  عز وجل  .. و الله يجيب دعوة الداع إذا دعاه إذا وجد في قلبك اللجوء إليه، كانت المعونة على قدر المؤنة، وينزل الصبر من الله على قدر البلاء، وتنزل النعم و المنح بما لا يتصوره إنسان .."للذين أحسنوا الحسنى و زيادة"، "لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ  وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

 
 فلم تلجأ لغير الله، طالما جربت أُعطيات الله تبارك و تعالى ..فلابد أن نلجأ إليه وحده و نتوكل عليه وحده وألا نخاف من غيره وأن ندعوه وأن نعلمه بأسمائه وصفاته ونتقرب إليه بسائر الطاعات لا نعمل طاعة من الطاعات لغير الله؛ فيورث هذا المشهد القلب الإخلاص لله تبارك و تعالى.


أما المشهد الرابع فهو:( 4)مشهد الربانية :
 
 
أن تكون عبدًا ربانيًا، لا أن تكون رمضانيًا..
 أيها الناس من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ  أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ".
 

أفإن انقضى رمضان و انتهت هذه الأيام و ذهبت هذه الليالي انقلبتم على أعقابكم؟، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا .."و سيجزي الله الشاكرين".
 
 
 فكن عبدا شاكرا لله .. لا تكن رمضانيا ..ولا موسميا .. ولكن كن ربانيا  .."و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، و لا يكن حالك كحال من ذكرهم الله في كتابه  "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا"، لا تكونوا كهذه المرأة التي كلما غزلت غزلا و أعجبها نقضته مرة أخرى .. فلا تنقض هذا الإيمان ..لاتضيع هذا النور و هذا الهدى ..لا تملأ قلبك بالظلمة من بعد أن مليء نورا و هدى من الله .

 " أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ  كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "، هذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى لعامل كان يعمل من الصالحات حتى أثمرت طاعاته كالجنة التي آتت من كل الثمرات و كانت تجري من بينها الأنهار  ثم أصبح كبيرا و له ذرية ضعفاء فهو في أشد الحاجة إلى هذه الثمرات، كما تكون أنت يوم القيامة في أشد الحاجة إلى ثواب العمل الصالح ..فلم يجد من ثواب عمله شيئا!!!
 
فلابد أن تتأمل حال هذا الذي كان في قلبه مرض  أو عدة أمراض ...فلم يتعاهدها فظهرت وأذهبت هذه الأمراض ثواب عمله ..قال الله  عز و جل "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" لا تكونوا عباد الله كمن قال الله في شأنهم " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ  فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "، هذا الذي آتاه الله الآيات استمع إلى كلام رب البريات خشع قلبه بين يدي ربه فازداد علما ثم انسلخ من آيات الله كما تنسلخ  الحية من جلدها!!! .
 
 فأتبعه الشيطان المنتظر هذه اللحظة المتربص به"فكان من الغاوين *ولو شئنا لرفعناه بها" أي لتوفيناه و هو يعمل بالصالحات و لرفعنا مكانته بين الخلق بالعمل بآيات الرب تبارك وتعالى ..لكن الله  عز و جل  حكيم في فعله حكيم في قدره .. هو الذي ظلم نفسه ..أخلد إلى الأرض و التصق بها لا ينظر إلا إليها و اتبع هواه فصار مثله كأخس حيوان صورةً ومعنىً "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" ..

لابد أن تعيش عبدالله مع هذا المشهد ..لا تكن أبدا رمضانيا .. لا تكن موسميا .. كن ربانيا ..الله  عز و جل  حي لا يموت باق بعد فناء  خلقه..  "كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون".
 
 
أما المشهد الخامس، الذي ينبغي أن نشهده في هذه الأوقات اليسيرة المتبقية هو:


(5)
 
 مشهد التوبة و المغفرة:
 
 
وهذا نحتاجه جميعاً.. فكلنا قصر في حق ربه تبارك و تعالى و لم نعبد الله حق عبادته ويا من ضيعت هذه الأوقات الفاضلة لابد أن تحاول أن تعود إلى الله عز و جل فإن الله تبارك و تعالى غفور حليم تواب سبحانه وتعالى، لا تقل هل سيفتح لي ؟! .. فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ".
 
 
وقال الله تعالى " وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ  وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا "، فمن الذي يحول بينك و بين التوبة من الذي سيغلق باب ربك في وجهك ..لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك فالله  عز و جل  كريم حليم غفور شكور_ سبحانه و بحمده _ يحب أن يتوب العبد و يفرح بتوبته  .. إذا أقبلت إليه شبرا تقرب إليك ذراعا ..و إذا تقربت إليه ذراعا تقرب إليك باعا ..وإذا أتيته تمشي أتاك هروله ..هذا هو الله سبحانه و تعالى الأرحم بعباده من الوالدة بولدها .

مر الفضيل بن عياض على رجل بلغ ستين سنة فقال له ( يا هذا كم بلغت من العمر) ..فقال (ستون سنة ) ..فقاله له (أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله ) اقتربت من النهاية (يوشك أن تصل )، فقال الرجل ( إنا لله و إنا إليه راجعون )، يقولها كما يقولها كثير من المسلمين فقال الفضيل  عليه رحمة الله  (يا هذا من علم أنه لله و أنه إليه راجع  فليعلم أنه موقوف ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا ).
 
 نعم عباد الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه و بينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة"، فقال الرجل  ( فماذا أفعل )، فقال الفضيل ( أحسن فيما بقي يغفر الله لك ما بقى و ما مضي ).
 
 نعم مازالت أبواب الجنة مفتحة و مازالت أبواب النيران مغلقة، مازال المنادي ينادي ( يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر) ..ربك حليم غفور كريم يقبل توبتك فلا تسوف ولا تؤجل لأنك لا تدري متى سيأتيك الموت ..في كل يوم نشيع حبيبا لنا و من أدراك أن الدور عليك في أسرع إلى التوبة إلى الله تبارك و تعالى فإنك لا تدري متى سيأتيك ملك الموت... عباد الله لا تقنطوا من رحمة الله مازال لله في كل ليلة عتقاء من النار و الكريم في أعطياته يعطي بلا حساب وفي أواخر هذا الشهر المبارك في هذه الأنفاس القليلة المتبقية يزداد عطاء الله وكرمه و رحمته بعباده فتعرض لرحمة الله  عز و جل  "ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا".
 
 
ولا تنسوا عباد الله صدقة الفطر التي فرضها نبيكم  صلى الله عليه و سلم  على الصغير و الكبير و الرجل و المرأة و الحر و العبد من المسلمين و أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى فهي وإجبة على كل مسلم كان موجودا قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان سواء ولد قبل ذلك الوقت أو مات في شهر رمضان على الراجح من كلام العلماء ، وهذه الصدقة هي طهرة للصائم من اللغو و الرفث و طعمة للمساكين ....فالله الله في الفقراء هذه الأيام عباد الله لا تبخلوا عليهم فإن الحال قد اشتد بكثير منهم لا يجدون طعاما و لا شرابا ولا مأوى و لا لباسا حالهم شديد فكونوا معهم .
 
 كن كريما معهم ...أحسن كما أحسن الله إليك ...والأصل فيها أنها تخرج طعاما كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إليه جمهور الفقهاء الإمام مالك و الشافعي وأحمد رحمهم الله جميعا، وذكر بعض الفقهاء أنه يجوز أن تخرج قيمة و توسط البعض في ذلك فقال : الأصل أنها تخرج طعام إلا إذا كانت هناك حاجة للمال أشد كأن يكون هناك مريض يحتاج  ثمن الدواء أو يحتاج إلى نفقة على أولاده ونحو ذلك .. ولك أن توكل من أصحاب الجمعيات المؤتمنين في إخراج زكاة فطرك   للفقراء و المساكين .. ويجب على كل فرد صاع من طعام، والصاع عباد الله كما كان على عهد رسول الله  في زماننا  يعادل 2800 جرام من الأرز تقريباً،  والطعام كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم "التمر أو الزبيب أو الأرز أو الشعير"، و الناس لا ياكلون الشعير الآن، ومن تأخر أيضا في إخراج زكاة ماله هذه الأيام فليخرجها ولا يكنز، ولا يكون كمن قال الله تعالى في شأنهم " يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ "، ووقت إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد ويمكن أن تخرج قبل ذلك بيسير بيوم أو يومين كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون .



 
 
نسأل الله تبارك و تعالى أن يتقبل منا أعمالنا إنه ولي ذلك و مولاه ..ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .....انتهى