معالم وسطية السلفية في الواقع المعاصر

  • 167

وكما بيَّنا فيما سبق وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق الضالة، وكيف أنهم على الصراط المستقيم بين أهل ‏الغلو وأهل التفريط، نوضح كذلك وسطيتهم في الواقع المعاصر وفي كثير مِن القضايا التي شغلت الأذهان واختلف ‏الناس فيها في زماننا اختلافًا كثيرًا.‏
وأهم هذه القضايا: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والحاكمية، والعزلة ‏والخلطة، وهاك بيان وسطية أهل الحق في كل هذا حتى تتضح لك المعالم وتتجلى لك الحقائق ويزول اللبس وتعلم ‏الحق؛ فتلزم سبيل المؤمنين، وتكون من الطائفة المنصورة بإذن الله.‏
ففي الدعوة إلى الله كان أهل الحق وسطًا بين فئتين؛ فئة فرطت فيما أمرها الله به مِن الدعوة إلى دينه وبيان ‏الحق لخلقه فشغلوا بدنياهم عن دينهم وهم غالب الخلق، وصدق فيهم قول القائل:

نرقع دُنْيَانَا بتَمْزِيْقِ دِيْنَنا *** فَلا ديِنُنَا يَبْقَى ولا ما نُرَقِّعُ
 
وفئة أخرى راحت تدعو إلى الله بلا علم ولا بصيرة؛ فبدلًا مِن أن يدعوا إلى ما أنزل الله، دعوا إلى أصول أصلوها ‏ومناهج وضعوها بعيدة عن الوحي المنزل، أو أخروا ما حقه التقديم في الدعوة كدعوة التوحيد، فلبسوا الحق على ‏الخلق، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا.‏
أما أهل الحق السائرون على درب السلف فكانوا وسطًا بين الطائفتين، فدعوا إلى الله على بصيرة وهدى ‏امتثالًا لقول ربهم: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ ‏الْمُشْرِكِينَ?.‏
فقاموا بواجبهم متسلحين بالعلم الشرعي الذي تؤدى به الواجبات، وتدرأ به الشبهات، ويعصم به العبد من ‏ارتكاب المحرمات، فنهجوا منهج الأنبياء بالدعوة الحكيمة إلى ما أنزل الله جملة وتفصيلًا، بيد أنهم بدءوا دعوتهم ‏إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك.‏
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أهل الحق وسطًا بين طائفتين؛ إحداهما تركت ما يجب عليها من ‏الأمر والنهي، يمرون على المنكرات مِن الشرك والبدع والمعاصي لا يحركون ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيهم، يقول ‏أمثلهم طريقة: علينا أنفسنا، أو: دع الملك للمالك .. ولله در الصديق رضي الله عنه حيث قال: «أيها الناس، إنكم ‏تقرءون هذه الآية: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? إلى آخر الآية، ‏وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ قال: وَإِنَّ النَّاسَ إِذا رَأَوُا المُنكَرَ فَلَم يُغَيِّرُوهُ ، ‏أَوشَكُوا أَن يَعِمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ».‏
أما الطائفة الأخرى المقابلة لهذه هي التي راحت تأمر وتنهى باللسان واليد، ولكن مِن غير فقه أو حلم أو نظر ‏فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر؛ فترتب على أمرها ونهيها وقوع المفاسد وضياع المصالح وزيادة المنكرات، وبين الفئتين وقف أهل العلم والاتباع ‏على الجادة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكن بعلم وحلم.‏
فأمرهم بالمعروف بمعروف، ونهيهم عن المنكر مِن غير منكر، يغيرون المنكر إذا كان سيحل محله معروف أو ‏منكر أقل، أما إذا كان سيترتب على نهيهم منكر أعظم امتنعوا وكفوا؛ مراعاةً لتحقيق المصالح وتكميلها، ودرء ‏المفاسد وتقليلها.‏
 
وفي الجهاد كانوا وسطًا بين طائفتين؛ إحداهما فرطت، فبعضهم قصر الجهاد على جهاد الدفع دون الطلب، ‏وبعضهم أمعن في التفريط حتى كاد يسقط جهاد الدفع حيث أنكر على المسلمين مقاومة عدوهم الذي احتل ‏ديارهم ونسي أن جهاد الدفع من فروض الأعيان.‏
وأما الطائفة الأخرى فقد غلت واندفعت في تهور غير مراعية للضوابط الشرعية؛ فسفكت الدماء المعصومة، ‏وأوجبت القتال على المستضعفين، فكان قتالهم قتال فتنة ارتكبت فيه المفاسد وضاعت المصالح، وكل ذلك باسم ‏الجهاد.‏
وبين الطائفتين وقف أهل الحق والاتباع على الصراط المستقيم الذي هو شرع الله المنزل، فقالوا: إن الجهاد ذروة ‏سنام الإسلام، به تحمى بيضة الدين وتعلو راية التوحيد، ويكون بالجسم واللسان وبالسيف والسنان، ولكن ‏بالضوابط الشرعية والقواعد المرعية ومراعاة الشروط التي دلت عليها أدلة الكتاب والسنة، والتفريق بين القدرة ‏والعجز وغير ذلك، فأصابوا الحق ورحموا الخلق.‏
وفي مسألة الحاكمية كانوا وسطًا بين فئتين؛ إحداهما غلت، فعدَّت الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر على ‏إطلاقه، كما لم تفرق بين العموم والتعيين فأشبهوا الخوارج في ذلك ..‏ والأخرى فرطت، فرأت أن الحكم بغير ما أنزل الله كله كفر أصغر، فهو عندهم مجرد معصية لا يكفر صاحبه ‏إلا إذا استحل، والاستحلال عندهم أمر قلبي لا بد أن يصرح به صاحبه؛ كحكم مرتكب الكبيرة عندهم تمامًا ‏بتمام، فخالفوا بذلك أدلة الكتاب والسنة ونصوص أهل العلم.‏
ولأهمية هذه القضية سوف نفرد لها مقالًا خاصًّا في المرة القادمة إن شاء الله.