بيان معالم وسطية أهل السُّنَّة

  • 205

فلما وقع الاختلاف والافتراق المذموم، وأصاب الأمة داء الأمم السابقة؛ كانت الفرقة الناجية أهل السُّنَّة والجماعة على الصراط السوي، وكانت وسطًا بين طرفين مذمومين؛ طرف غلا وتجاوز الحق مِن الفرق الضالة، وطرف آخر قصَّر، ولذلك كان أهل السنة كما قال شيخ الإسلام: «وسطًا بين هذه الفرق كوسطية الإسلام بين الملل الأخرى»، والذي عصم أهل السُّنَّة والجماعة مِن الزيغ هو التماسهم الهدى في الوحي المنزل، حيث تمسكوا بالكتاب والسنة، وجعلوهما إمامًا لهم في كل أبواب الدين؛ في العقائد والأحكام والأخلاق والسلوك، ولذلك كان أهل السنة والجماعة هم الذين يمثلون الأمة المحمدية، وهم الفرقة الناجية؛ لأن منهجهم هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فقد سُئِل عن الفرقة الناجية فقال: «هم الجماعة»، وفي رواية: «هي ما كنت عليه أنا وأصحابي»، فهم الممثلون للأمة المحمدية في صفاء عقائدها ونقاء منهجها، ومصداقًا لما نقول فهناك هذا البيان الذي يوضح لك معالم وسطية أهل السنة، فنقول وبالله التوفيق:
 
أولًا: وسطية أهل السنة في صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل والتشبيه:
 
فأهل السنة وسط بين النفاة للصفات كلها أو بعضها وبين المشبهة الذين بالغوا في الإثبات فشبهوا صفات الرب بصفات الخلق، فجاء مذهب أهل السنة والجماعة متبعًا للحق، فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته رسول الله له في سنته، فخالفوا المعطلة في ذلك، ثم نزهوا ربهم عن مشابهة المخلوقين اتباعًا لقوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ".
 
ثانيـًا: وسطية أهل السنة في القدر بين القدرية والجبرية:
 
والقدرية هم نفاة القدر الذين قالوا: «إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وأن العباد هم الخالقون لأفعالهم»، فخالفوا قول الحق جلَّ وعلا: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"، وأشبهوا المجوس الذين قالوا: «إن للكون إلهين؛ إله النور وإله الظلمة»، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القدرية مجوس هذه الأمة»، أما الجبرية فهم الذين قالوا: «إن العبد لا تأثير لقدرته في إيجاد الفعل»، وعلى ذلك فجميع أفعال العبد عندهم هي أفعال للرب موجودة مِن العباد قهرًا، فنفوا إرادة العباد تمامًا، فالقدرية جفوا فنفوا القدر ونفوا قدرة الرب وخلقه لأفعال عباده، والجبرية غلوا في إثبات القدر ونفوا مسئولية العبد عن أفعاله، وكلا المذهبين على ضلال، يخالفان الحق الذي عليه أهل السنة حيث توسطوا بينهما فأثبتوا القدر وأن الله خالق كل شيء حيث قال تعالى: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"، فلا يقع في ملكه إلا ما يشاء سبحانه وتعالى حيث قال:"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"، فأثبت للعبد مشيئة مؤثرة في فعله، وجعل وجود متعلقًا خلقًا وإيجادًا تابعًا لمشيئته سبحانه وتعالى، فعلى العباد أن يجتهدوا في العمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خلق له»، فكان قول أهل الحق في ذلك أن الفعل فعل العبد والخلق خلق الرب، والربُّ خَلَق العبد وفِعْلَه، ففِعلُ العبد مِن خلق الله، وهو واقع بقدرة العبد وإرادته بشرط تعلقه بإرادة الرب الكونية القدرية.
 
ثالثًا: وسطية أهل السنة في باب الوعد والوعيد:
 
وأهل السنة في هذا الباب وسط بين أهل الغلو مِن الوعيدية الخوارج الذين كفَّروا مرتكب الكبيرة ونفوا عنه الإيمان وقالوا بخلوده في النار، وكذلك المعتزلة الذين قالوا بأنه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا ووافقوا الخوارج في خلوده في النار، ولا شك أن هذا المذهب مذهب باطل يخالف صريح القرآن والسنة، وعلى الطرف الآخر كان المرجئة الذين قالوا: «إن العاصي مؤمن كامل الإيمان وإن المعصية لا تضر الإيمان وإن إيمان العاصي كإيمان جبريل»، فتوسط أهل السنة والجماعة بين الطرفين المذمومين فقال أهل السنة: «هو مؤمن بما معه مِن أصل الإيمان، غير أنه ناقص الإيمان، فهو مؤمن عاصٍ لا يستحق اسم الإيمان المطلق، وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، غير أنه إن دخل النار لا يخلد فيها إنما ينجو بما معه مِن أصل الإيمان»، وهذا الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسنة حيث قال تعالى: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"، وغير ذلك مِن الآيات الكثيرة التي تثبت للعاصي أصل الإيمان .. أما عدم خلوده في النار فلقوله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ»، وغير ذلك مِن النصوص الكثيرة.
 
رابعًـا: وسطية أهل السنة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 
مِن أصول أهل السنة والجماعة وجوب حب الصحابة رضوان الله عليهم ومعرفة سبقهم وفضلهم، وكذا وجوب حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخوض فيما حصل بينهم مِن خلاف؛ فهم إما مجتهد مصيب له أجران, وإما مجتهد مخطئ له أجر، وفي ذلك يقول صاحب سلم الوصول:
 
ثم السكوت واجب عما جرى *** بينهم مِن فعل ما قد قدرا
 
فكلهم مجتهــــد مثاب *** وخطؤهم يغفــره الوهاب
 
فهم رضي الله عنهم لهم مِن السبق في الإسلام والعلم به والعمل ما يجعل ما حصل بينهم هو بمثابة قطرة دم في نهر فرات سلسبيل فكيف تكدر صفوه أو تغير لونه؟ وقد رحمهم الله وأثنى عليهم في كتابه فقال عز وجل: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?، فكان أهل السنة وسطًا بين مَن وقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفَّرهم كلهم أو بعضهم، ومَن غلا في بعضهم فجعله إلهًا أو معصومًا، فخالفوا بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه»، وخالفوا قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بالغلو في الدين»، ولله در القحطاني حيث يقول في نونيته في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
 
لا تنتقصه ولا تزد في قدره *** فعليه تصلى النار طائفتان
 
إحداهما لا ترتضـيه خليفة *** وتنصه الأخرى إلهًا ثاني
 
خامسًا: وسطية أهل السنة في باب العقل والنقل:
 
حيث توسط أهل السنة والجماعة بين طائفتين في هذا الباب؛ إحداهما غلت في العقل ورفعته فوق مكانته وجعلت كل ما ينتج عنه مِن المسلمات، فقدمته على نصوص الوحي، والأخرى أهملته إهمالًا تامًّا فردت صريح المعقول، فتوسط أهل السنة والجماعة بين الطائفتين، وقالوا: «إن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، فمَن خالف صحيح المنقول فقد وقع له غلط؛ حيث العقل يصيب ويخطئ، أما الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فهم معصومون، لا يقولون على الله إلا الحق، ولا ينقلون عنه إلا الصدق، فمَن أدى في أخبارهم ما يناقض صريح المعقول كان كاذبًا، بل لا بد أن يكون ذلك المعقول ليس بصريح أو ذلك المنقول ليس بصحيح، فإذا صح النقل امتنع أن يكون في العقل ما يناقضه، بيد أن الأنبياء قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته لا بما يعلم العقل بطلانه، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ومَن سوى الأنبياء ليس معصومًا؛ فقد يغلط وإن ظن نفسه مصيبًا».
 
سادسًا: وسطية أهل السنة في العبادات بين الروافض والصوفية وبين الدروز:
 
وأهل السنة في هذا وسط بين مَن تعبَّدوا بالبدع والمحدثات مما لم يشرعه الله تعالى مِن الأذكار والتوسلات وإقامة الأعياد والاحتفالات البدعية والبناء على القبور والصلاة عندها والطواف بها والذبح عندها وغلاتهم يعبدون أصحاب القبور بالذبح لهم أو دعاؤهم أن يجلبوا لهم مرغوبًا أو يدفعوا عنهم مرهوبًا، والدروز والنصيريون الذين يسمون بالعلويين، وهؤلاء تركوا عبادة الله بالكلية فلا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يحجون حيث انسلخوا مِن دين الله عز وجل، أما أهل السنة والجماعة فيعبدون الله عز وجل بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله، فلم يتركوا ما أوجب الله عليهم مِن العبادات، ولم يبتدعوا عبادات مِن تلقاء أنفسهم، عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية لمسلم: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».