أرمينيا بين مذبحتين: تركية وأذرية

  • 157

كثر الحديث خلال الأيام المنصرمة عن الذكرى المئوية لما تعرَّض له الأرمن من مجازر على أيدي الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث يوجه الاتهام إلى الدولة التركية بضرورة الاعتراف بأن الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها الشعب الارمني على يد أجدادهم منذ ما يقرب من مائة أعوام، وما يترتَّب عليه ذلك الاعتراف من مسئولية في كنف الدولة التركية يفرض عليها دفع تعويضات على غرار ما قامت به ألمانيا النازية من دفع تعويضات للشعب اليهودي جراء ما تعرَّض له مِن محارق على يد هتلر في ثلاثينات وأربعينيات القرن المنصرم، ورغم ما كتب من تفنيد في هذه المحرقة حيث كشفت الكثير من الوثائق مدى الكذب والادعاء الباطل الذي قامت عليه هذه القصة المختلقة من جانب اليهود لاستنزاف العالم وكسب تعاطفه، ولعل كتاب "روجيه جاروي" المعنون بالاساطير المؤسسة لدولة إسرائيل واحدًا من الوثائق التي تكشف زيف هذه الأسطورة الخيالية.

ولكن ليس حديثًا اليوم عن أسطورة المحرقة الإسرائيلية، ولكن ذكرها يلفت الانتباه إلى ما يدعيه الأرمن اليوم عمَّا تعرَّض له على يد الأتراك العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، فإذا كان صحيحًا أن هناك تجاوزات وانتهاكات ارتكبها الأتراك بحق الشعب الأرمنى آنذاك وهو ما اعترفت به الدولة التركية حينما أشار إلى ذلك الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" حينما كان رئيسًا للوزراء، وكذلك رئيس الوزراء التركي الحالي "أحمد داود أوغلو"، ولكن لا يعني ذلك أن الدولة العثمانية قد ارتكبت ما يُمكن وصفه فى القانون الدولى بجريمة الإبادة الجماعية بجوانبها القانونية، صحيح أن هناك دولًا اعترفت بذلك، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن القانون الدولي بمؤسساته المختلفة لما تعترف بهذه الجريمة وعلى رأسها الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة.
 
ومِن ثَمَّ، ففي الوقت الذي نرفض فيه أيَّة جرائم ترتكب بحق الشعوب إلا أنه في الوقت ذاته، يجب ألا يغلب السياسي على القانونى حينما نتحدث عن جرائم قانونية وإلا أفقدنا القضية جوهرها وحجتها، لأننا إذا ما أدخلنا السياسي في مثل هذه القضية، فيجب ألا يغفل الجانب الأرمني ما قام به من تواطؤ ضد الدولة العثمانية في حربها مع روسيا وحلفائها في الحرب، فحينما تكون جزءًا من الدولة، فيجب ألا يكون انتماءك إلى دولة أخرى وعلاقتك مع الآخرين ضد دولتك ترتب في كنفك مسئولية جنائية تستوجب أعلى مستويات العقوبة الجنائية، ما نود قوله أنَّ دراسة ما تعرَّض له الأرمن على يد الدولة العثمانية في أوائل القرن المنصرم يجب ألا يخرج عن نطاقه القانوني حتى لا تلتبس الحقائق ولا تضيع الحقوق.
 
وعلى الجانب الآخر، يجب ألا يغفل العالم ما ارتكبته أرمينيا بحق الشعب الأذري في كاراباخ من جريمة إبادة جماعية تعرض لها فيما عُرِفَ بمذبحة "خوجالي"، حيث قامت القوات المسلحة الأرمينية في ليلة السادس والعشرين من فبراير 1992 بالهجوم على مدينة خوجالي الأذرية، وذلك بدعم ومساعدة من الفوج 366 مُشاه التابع للجيش السوفيتي والمقيم بمدينة خانكندلي القريبة من هناك. وقد أسفر هذا الهجوم عن تدمير مدينة خوجالي بالكامل، وراح ضحيته 613 شخصًا من الأذريين، من بينهم 106 من النساء، و63 طفلًا، و70 مُسِنًّا، وتم القضاء على 8 أسر بالكامل، وهذا بجانب اعتقال 1275 شخصًا أذربيجانيًّا، منهم 150 شخصًا لا يعرف مصيره حتى الآن، بل ما زال العدوان والاحتلال الأرميني ضد أذربيجان متواصلًا، حيث أصبحت خُمْس الأراضي الأربيجانية تحت الاحتلال، وأصبح واحد من كل8  أشخاص في البلاد من المُشرَّدين داخليًّا أو مِن اللاجئين، وقتل 20 ألف شخص، وأصيب 50 ألف شخص ما بين جريح وعاجز، وما زال في عدَّاد المفقودين حوالى 5 آلاف مواطنًا آذريًّا.
 
ورغم أن هذه الجريمة قانونية في إطار قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، إلا أن الحديث عنها لا يزال خافتًا، بل ثَمَّة قرارات لمجلس الأمن ولهيئات دولية وأوروبية أخرى بشأن الاحتلال الأرمينى لأراضي أذربيجان وارتكابها للعديد من التجاوزات والانتهاكات بحق الشعب الأذري، إلا أن الصمت العالمي والأوروبي ما زال مستمرًا، بما يفتح المجال للبحث عن دور اللوبيات الأرمينية في توجيه قرارات الدول الكبرى، فإلى جانب المساندة الروسية للطرف الأرمينى ودعمه، يبرز الانحياز الأمريكي والأوروبى أيضًا.
 
خلاصة القول: لا يزال العالم في نظرته لقضايا حقوق الانسان وانتهاكاتها يكيل بمكيالين، طبقًا لمصالح كل طرف بعيدًا عن القواعد القانونية واجبة التطبيق، ولعل النموذجين الأبرز في العالم حتى الآن: الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني، والاحتلال الأرميني وجرائمه بحق الشعب الأذرى. فإلى متى يصمت العالم بحق هذا النمط مِن الاحتلال الاستيطانى الذي يُعَد من أسوأ أنواع الاحتلال الذي لم تعرفه الإنسانية في تاريخها الممتد.