توقف عن البحث خارج نفسك (1-2)

  • 253

من نعم الله التابعة لنعمة القرآن، نعمة أسباب النزول؛ فعلم أسباب النزول من العلوم الداعمة للتدبر العملي الميداني للقرآن الكريم، علم يفتح الآفاق الرحبة للتجول في الجو النفسي لنزول الآيات، يقدح الأفكار داخل الأذهان، يفتح للمتدبر باب المعايشة الزمنية لنزول الآيات في أشرف الأزمنة. وآية الحديد التي بين أيدينا مثال عملي على ذلك، في أسباب نزولها الدقيق والواضح، قال تعالى: {ألم يأن للذين أمنوا أن تحشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد: 16).
 
روي الإمام مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.
 
وروي عن أنس بن مالك وابن عباس قالا: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين ..قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه، وأعظم ما في الآية أنها لا تتحدث عن الإيمان ولكنها تتحدث عن فاعلية الإيمان وآثاره المترتبة في نفوس أهل الإيمان، وفي واقعهم العملي، والآية منهجية عملية لمواجهة القلوب البطيئة في كل زمان ومكان مهما كان فعلها، ومهما كانت التحديات التي تواجهها.. وقوام المنهجية في الخطوات التالية:
 
أولا: فقه التساؤل: كثرة التساؤل دليل يقظة ودليل "ثروة وعي",قال أبو يعلى لما نزلت هذه الآية: أقبل بعضنا على بعض يتساءلون: أي شيء أحدثنا؟! أي شيء ضفنا؟! وكأنها دورة تدريبية للتغيير من خلال إثارة التساؤل تحت عنوان "ألم يأن"، حتى أسماها متدبر الزمان فريد الأنصاري رحمه الله "منزلة الآنية"، وقال ابن قتيبة: ألم يأن، يأن بمعنى "ألم يحن"...، تسأل يدفع الإنسان لمواجهة نفسه لا للتفرغ لغيره.. منهجية وطريقة للتفكير، لمقاومة عدم الإنجاز أو البطء في الإنجاز أو عدم الفاعلية، وذلك في كل شيء، والخطاب لأهل الإيمان بمنتهى الوضوح والشفافية والدقة والتحديد،(ألم يأن الأوان ياأهل الإيمان؟!).
 
والتساؤل في القلب رحمة لأنه طوق نجاة من الغرق في بحر النسيان، سفينة النجاة من الغرق في بحر "نسوا الله فأنساهم أنفسهم" أو "نسوا الله فنسيهم"؛ فالمعاتبة لأهل الإيمان دليل محبة من الرحمن، أما من لا يستحق فجزاؤه النسيان.. "ألم يأن" منهجية للمراجعة، والمراقبة في كل لحظة تولد تساؤلات دائما في كل مجال،(ألم يأن أن نتحرك في الدعوة إلى الله؟!).
 
ألم يأن أن نهتم بصلاة الجماعة؟! ألم يأن أن تصلح تعاملك لوالديك؟! ألم يأن أن تخشع في صلاتك؟! ألم يأن أن يكن لك دور في مجتمعك؟!
 
مسئولية كل واحد منا أن يفتش في نفسه، في فاعليته، أي المساحات في حياته أن يغزوها ويدفعها للفاعلية بجيش "ألم يأن"!
 
ثانيا: التذكير بالإنجاز:  النداء للذين آمنوا، ما أجمل طريقة القرآن في التحفيز والدفع نحو العمل بتذكير أهل الإيمان بإنجازهم الأسمى والأعلى وهو "الإيمان"، وهو في غاية اللطف والحنان، فجميل أن يكون منهجية للتربية حتى لا يتوقف المبدأ على قول اللسان فقط، وهكذا قال المارودي في "تفسيره"، بل لابد من الفاعلية وظهور آثار الإيمان أو أي مبدأ تبناه أهل الإيمان في ميدان العمل؛ فالإسلام ليس دين صوامع ولا نظريات، ولكنه دين ميدان، يا أيها الداعي أين آثار دعوتك؟! يا أيها المنفق ألم يأن للذين أنفقوا.. ألم يأن للذين طلبوا العلم.. ألم يأن للذين دعوا إلى الله.. التذكير بالإنجاز في العتاب والتربية.
 
ثالثا: البداية من الداخل: توقف عن البحث خارج نفسك، البداية من الداخل ومن الداخل أولا.. ومن الداخل أولا تم يتبعه التغيير في كل شيء.
 
ذكر ابن أبي شيبة في أسباب النزول الآية كثرة الضحك في شباب الصحابة فنزلت هذه الآية، وربما هناك أسباب أخري مجملة أو تفصيلية، المهم أن القرآن قال "أن تخشع قلوبهم" وكأنه قانون يقول لك ثلاثة أشياء: قانون البداية من الداخل له ثلاث مدلولات:
 
1-   عند كل تحدٍ الخطوات الأولى للمواجهة هي النظر إلى قلبك، توقف عن البحث خارج قلبك أولا ثم نبحث.
 
2-   الخشوع والتركيز بداية لكل عودة، الخشوع والتركيز الفرسان المنجزان اللذين سيوضع عليهما كل إنجاز وفاعلية؛ لذا خشوع القلب بداية كل نهضة والمشترك في كل عودة.
 
3-   أمة "لا إله إلا الله" بداية الإصلاح في كل زمان، وأمام كل تحدٍ لا بد أن يبدأ بموضع نظر الله "وهو القلب"؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فموضوع نظر الرب جزء في كل حل، وضرورة في كل حل مهما كانت الأحداث؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"!
إذن.."أن تخشع قلوبهم" خطوة ثالثة في منهجية الإصلاح والعودة.
 
ويتبقى خطوات تالية لإكمال هذه المنهجية.. نكملها في مقال قادم بإذن الله.
لن نخرق السفينة..
وسنغرس الفسيلة بإذن الله.