جماعات التكفير وآليات المواجهة

  • 162

تمر المنطقة العربية اليوم بواحدة من أصعب حِقبها الفكرية والدينية ضبابية وغموضا وخطورة، ومن أعقد فتراتها السياسية والأمنية صراعا واقتتالا وحروبا. فانتشار الأفكار التخريبية، وتصاعد الدعوات التفكيرية، وازدياد الأعمال الإرهابية، وتحولها إلى ما يشبه الممارسة الطبيعية لدى البعض، يمثل خطورة حقيقية على أمن الدولة واستقرارها، وعلى تماسك المجتمع وترابطه ووحدة كيانه؛ بما يفرض ضرورة المعالجة السريعة والناجزة والدقيقة لمثل هذه التهديدات التي تزداد اتساعا وتعمقا وتجذرا في أعماق المجتمعات بهدف تفكيكها وإعادة رسم حدودها، إما على أسس دينية أو فئوية أو مذهبية) طائفية) أو عرقية؛ وهو ما يحقق أهدافا دولية وطموحات إقليمية سعت إلى تفكيك الدول العربية والإسلامية وجعلها فئات وقبائل تقاتل بعضها بعضا، وليس أدل على ذلك مما يجرى اليوم في اليمن الذي يدخل بصعود الدور القبلي إلى واجهة الصراع مرحلة جديدة ترسخ لأسس الانفصال ليس على أسس مناطقية أو حتى مذهبية، وإنما على أساس قبلي؛ وهو الأمر الموجود وإن كان بدرجة أقل في ليبيا.
 
ما نود قوله إن تصاعد الدعوات التجزيئية والتكفيرية التي تواجهها المنطقة تستوجب معالجة غير نمطية، ورؤى غير تقليدية قادرة على التصدي بحزم إلى تهديداتها ومخاطرها وتداعياتها، وإلا سنكون شركاء مع هؤلاء في تحمل المسئولية التي تئول إليها الأوضاع، مع الأخذ في الاعتبار أن المواجهة المطلوبة لهذه الأفكار التكفيرية والدعوات التقسيمية لا يمكن أن تتحقق بعقد مؤتمر دولي/ إقليمي، أو بتجمع رسمي/غير رسمي يخرج بتصريحات وبيانات لا تغنى ولا تسمن من جوع، وإنما يتطلب الأمر وضع إستراتيجية واضحة المعالم ومحددة الآليات والإجراءات كي نستطيع أن نقف في المواجهة بصلابة وبقوة . وفى محاولة جادة لوضع ملامح لهذه الإستراتيجية التي تتطلب تكاتف الجميع، يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات:
 
الأولى: من المهم أن يفهم الجميع أن طبيعة العقل التكفيري هو عقل سطحي غير متعمق، فينظر إلى الأشياء والقضايا نظرة سطحية، غير قادر على التمييز الفعلي والحقيقي لبواطن الأمور وجوهرها؛ كما أنه غير قادر أيضا على التفاعل بإيجابية مع المتغيرات والتطورات التي قد تشهدها المجتمعات، حيث يظل واقفا أمام جمود النص، بما يضفيه من قداسة للتفسير والاجتهاد البشرى إلى قداسة النص الإلهي؛ حيث يعتبر أن هذا التفسير جزء من النص وأنه بدونه لا يمكن أن يرى النص تطبيقًا على أرض الواقع .في حين أن التغيرات والتحولات التي تشهدها البشرية كل يوم تؤكد أن النص القرآني قادر على التعامل بمرونة عالية مع الوقائع والأحداث المتغيرة دون أن يفقد قدسيته أو دلالته.
 
الثاني: أن الفكر التكفيري لا علاقة له بالدين والصراع بشأنه، وإنما هو مرتبط ارتباطا كاملا بالصراع السياسي وتحديدا الصراع على السلطة؛ يدلل على ذلك أن أول ظهور لهذا الفكر ارتبط بالصراع السياسي، حيث خرجت جماعة الخوارج التي أسست لهذا الفكر، وغنى عن القول إن هذه المعلومة من الأهمية بمكان أن تكون واضحة للجميع ؛لأن توظيف الدين واستغلاله من أجل تحقيق مكاسب سياسية يظل أمرًا محكوما عليه بالفشل؛ فقدسية الدين ومكانته ترتقي به إلى ما فوق مثل هذه الصراعات السياسية، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن هذا لا يعنى فصلا للدين عن السياسة وإنما يعنى – من وجهة نظري- أن توظيف الدين واستغلاله في إدارة معركة سياسية أمر لا يتفق ومكانة الدين الحنيف وقدسيته؛ وبناء عليه يجب أن يكون هناك تمييز واضح بين الدين الإسلامي بوسطتيه وسماحته، وبين بروز هذه التنظيمات الإرهابية/ التكفيرية مثل داعش وحلفائها التي تتستر بالدين وتتمسح في مسميات خادعة للبعض حينما تصف نفسها بالدولة الإسلامية، أو حينما أعلن قائدها إقامة الخلافة الإسلامية؛ وهو لا يعلم حقيقة الخلافة وشروطها وكيفية تنظيمها لشئون الدول والمجتمعات.
 
الثالث: ليس صحيحا أن مسئولية مواجهة هذه التنظيمات والجماعات التفكيرية/ الإرهابية تقتصر على الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية فحسب، وإن كانت المسئولية تقع بصورة أكبر على عاتقها، إلا أنه من المهم التأكيد على دور المجتمعات ومؤسساتها المختلفة في تحمل المسئولية في مواجهة مثل هذه التنظيمات، بدءًا من الأسرة التي يجب أن تقوم بمسئوليتها في تحصين أبنائها ضد الفكر المنحرف، ودور المدرسة خاصة المقررات والمناهج التي يجب أن تظل بعيدة عن كل صور التطرف والغلو، مرورا بأجهزة الثقافة والإعلام ودورها في تصحيح المفاهيم وإجلاء الحقائق بعيدة عن أي تهويل أو تهوين من حجم المشكلة وتداعياتها، وصولا إلى دور المؤسسات الدينية وعلى رأسها مؤسسة الأزهر الشريف والأوقاف والإفتاء بضرورة توضيح حقيقة الفكر التكفيري وجذوره وظروف نشأته وأسباب انتشاره، والرد على شبهاته وافتراءاته بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي؛ شريطة أن يتم صياغته في أسلوب سهل ميسر يصل إلى الكافة، ولا يبقى حبيس مستوى النخب والمتخصصين.
 
نهاية القول: إن محاربة الفكر التفكيري والإرهابي لا يمكن أن تكون بالآليات الأمنية فحسب، صحيح أنها مطلوبة في إطار الدستور والقانون؛ كي تمثل ردعا سواء أكان ردعا خاصا أم عاما، إلا أنه من الصحيح أيضا أن موجبات المواجهة تتطلب وجود معالجات سريعة لعدد من الملفات القومية على رأسها ملف المحاكمات ضد رموز الأنظمة السابقة التي فسدت وأهملت ومارست الإرهاب في حق الدولة والمجتمع، ومنها أيضا الملف الاقتصادي المتمثل في معالجة الأوضاع الاقتصادية التي ترهلت كثيرا خلال الأعوام القليلة الماضية، مع سرعة العمل على استعادة الاقتصاد الوطني لقوته وقدرته على الانطلاق والجذب.
 
ويظل في النهاية قدرة الدولة وأجهزتها على ترسيخ" ثقافة الحوار" كوسيلة فاعلة للتغيير؛ لأن الفكر لا يُحارب إلا بالفكر،  والحجة لا تدحضها إلا حجة أخرى، والدليل لا يُذهبه إلا دليل أقوى منه.