عادي...!

  • 251

حين تغيب مفاهيم إدارة الحياة من خلال تدبر آيات الله.
غالبًا تكون العشوائية والمادية هى البديل..
الانتقال من التدبر إلى التدبير، من تدبر القرآن إلى تدبير شئون الحياة فردًا وأسرة ومجتمعًا من خلال هدايات القرآن.
ولعل آيات سورة الفرقان التالية نموذج عملي لما أردت أن أُوضحه..

ما من صاحب قضية أو رسالة إلا وتطارده أفكار نمطية مُحددة مُتكررة باختلاف الزمان والمكان والأحداث وهى: 
أولًا: فكرة التفرغ الكامل مع الانعزال التام عن المؤثرات الواقعية.

ثانيًا: استحضار القدرات الخارقة والتسامى عن الحاجات الفسيولوجية الطبيعية للبشر.
 
ثالثًا: الصدمة الأولية من رد فعل البشر تجاه ما يحمل، أو حسن الظن الذى يؤدى إلى فكرة غياب أعداء الفكر.

ولعلنا نُلخص ما سبق فى التحام فكرة "سوبرمان" مع المدينة الفاضلة.
قدرات فارغة وتفرغ كامل وطيران فى الهواء عن هذا المجتمع، وبالطبع يتفاوت الأمر من حيث النسبة والتوصيف بحسب الحدث والزمان والشخص والمكان،
آيات الفرقان تقول لك: "لا"..
الأمر "عادى"..
لا قدرات خارقة .. ولا مجتمع فاضل.. 
الأمر "عادي " ..
 
قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ? وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا).
نعم عادى..
لن تتوقف حياتك..
لن تنعزل عن البشر..
لن تجد نفسك صاحب قدرات خارقة بين عشية أو ضحاها..
لن تبنى صومعة وتجلس بداخلها ويتساقط عليك رُطبٌ جَنِيٌّ.
مع أن هذا كله ممكن وحدث، لكن هذا هو الاستثناء وليس "القاعدة"، فلا تُحوِّل الحاشية إلى متن..
الرسل يمشون فى شر البقاع "الأسواق" يتجاورون ويعملون، يحتاجون إلى الطعام ويأكلون ولم تقف حياتهم.
قال الشيخ المقدم حفظه الله:"متى كانت الدعوة التفرغ؟! الدعوة هى العمل لدين الله مع سير الحياة".
 

آية سورة الفرقان قاعدة لإدارة الواقع، وقاعدة لترتيب العقل المسلم مفاهيميًا فى تعامله مع تبليغ رسالته، وإدارته لاشتباكه مع مشكلات وتحديات واقعه..
يقول ابن كثير - رحمه الله- فى تفسير هذه الآية: (مُخبرًا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذى "عادى"، ويمشون فى الأسواق (أى: للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمُناف لحالهم ومنصبهم).
 

ويقول القرطبى - رحمه الله- هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش والصناعة وغير ذلك "عادى".. بين الناس ومن الناس وللناس..
 
هكذا أصحاب الرسالة..
 

يقول ابن عجيبة رحمه الله: "العزلة عن الناس عزلة الضعفاء، والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء"، فينبغى على العبد أن يرى فكرته فى العزلة والخلطة والخلوة، ولا يقتصر على تربيتها فى العزلة فقط لئلا يتغير حاله فى حال الخلطة..
 

وأجمل ما فى الآية هو الختام..
فالختام يُحوِّل كل موقف يحدث لصاحب الرسالة، أو كل شخص يقابله، أو كل محنة يتعرض لها.. إلى
ورقة امتحان تظهر أمامه بكل وضوح.
قال تعالى فى بقية الآية: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ).
قال ابن كثير رحمه الله: ( اختبرنا بعضكم ببعض).
 

فبعض المشكلات لا تحتاج إلى حل، ولكن تحتاج إلى صبر؛ لأنها فتنة واختبار، والإجابة الوحيدة المعتمدة هى "الصبر".
والله بصير مراقب مُطلع لرد فعل كل عبد ولحاله ومقاله..
وكأن آية الفرقان تقول: 
يا صاحب الرسالة،
يا طبيبا فى عيادتك،
يا طالبا فى مدرستك،
يا امرأة فى بيتها،
يا عاملا فى مصنعه.
أوْصل للناس رسالتك من مكانك بحالك هذا وقدراتك هذه..


 
"عادي"..
 

لا جديد.. بعد التزامك ويقظتك ستحتاج إلى الطعام فلن تذهب شهوة الطعام عندك، ستدخل فى الأسواق وتُخالط الناس،
والحياة لجنة امتحان، والصبر هو الإجابة، والله مُطلع..
ثم تأتى الآية الثانية فى نفس السورة لتحطيم المثالية، وفي نفس السورة
 
قال تعالى: (وَكَذَ?لِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ? وَكَفَى? بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
التفسير الميدانى لهذه الآية هو قول ورقة بن نوفل رضى الله عنه حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة فقال له: "يا ليتنى فيها جزعًا حين يُخرجك قومك، فقال له صلى الله عليه وسلم: أوَمُخرجى هم؟! فقال له: نعم، فلم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصُرك نصرًا مؤزرًا".


 
"عادي"..

هذا قانون واقع دعوة الرسل؛ الناس لن تُصفق لك ..

"عادي"..
هذا هو الوضع، وهذا هو الواقع؛ فاستبعد دور الضحية وبسرعة..
البعض يظن أن الناس ستتعامل مع كل فكرة نبيلة كما تتعامل مع اليوم الأول لنزول iPhone 6 (معلوم أن حجوزات اليوم الأول للهاتف النقال iPhone 6 كانت 4 ملايين)، الشخصية الرسالية لا تُصنع بطريقة ممتعة وسهلة، فهى مثل الصلب تتشكل فى النار بين المطرقة والسندان والمواجهة والتحديات والأعداء، هى المصنع المعتمد لإنتاج هذه الشخصية..

"عادي"..
"عدوٌ وليس من الضعفاء" ولكنه من المجرمين، وليس أمامك إلا حلان: إما أن يهديه الله أو ينصرك عليه..
لذا كان ختام الآية (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)..
 

هذا هو الطريق، وهذا هو الواقع أحببته أم لم تُحبه، فهمته أو لم تفهمه، يبقى الأمل فى أن تتعامل..
صاحب الرسالة رجل "عادي"، ولكنه بقلب سليم..
 
صاحب الرسالة يحتاج إلى الطعام، ولكنه يصوم ويتحرى الحلال..
صاحب الرسالة يمشى فى الأسواق، ولكنه يغض بصره ويكُف لسانه، وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاما..
صاحب الرسالة له أعداء لأنه لا يعيش فى الجنة، ولكنه يهديهم أو ينتصر عليهم..
صاحب الرسالة من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض وليس على الماء أو الهواء..
قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).

"عادي"..
يمشون على الأرض، ولكن بهم تتجمل الأرض وتحلو لأهلها..
لذا تبكى عليهم إذا فارقوها، وتشهد لهم يوم القيامة..
 

"عادى"..
لن نخرق السفينة.
وسنغرس الفسيلة..
بإذن الله..