بلاد الحَرْف

  • 222

لم تكن مجرد قصة حرف، ولكنها قصة حياة، أو قصة إنسان - بكل تفاصيلها - عاش في بلاد الحرف.
 
لعله أنا وأنت، أو ثالث آخر يسمعنا، أو رابع كان هناك معنا.
 
المهم أنه كان معنا هناك، حيث العيش النفسي في بلاد الحرف.
 
منهم من كان يزور هذه البلاد ثم يرحل.
 
ومنهم من اتخذها وطنًا.
 
ومنهم من عاش فيها وهو كاره.
 
ومنهم من رغَّب الناس في زيارتها، بل وحملهم في أكثر من رحلة إلى هناك،
 
ومنهم من حصل على جنسيتها.

الأمر كما فيه ألم .. فيه تألم.
 
أتعرف أي بلاد حرف أقصد؟
 
إنها بلاد حرف سورة الحج.
 
قال تعالى: (‏‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين).
 
يا للخسارة المُبينة!
 
فالخسارة في هذه الآية خسارة مضاعفة، جمعت بين خسارة الدنيا والآخرة - نعوذ بالله من ذلك.
 
والآية تُوضح التوصيف النفسي الداخلي الدقيق لهذا الشخص.. حين يصيبه الخير =  يطمئن، وحين تُصيبه الفتنة = يحدث الانقلاب!
 
وتفسير كلمة (حرف) يفتح لنا أبواب الفهم كي نُغلق أبواب الدخول إلى تلك البلاد.. بلاد الحرف.
 
وليضع كل منا نفسه على هذه التفاسير الأربعة، التي هى بمثابة طرق واضحة وضعها البعض كأسلوب في طريقة عبادته لربه.
هي بمثابة أختام واضحة على جواز سفرك لتعلم هل دخلت إلى دولة (الحرف) قبل ذلك أم لا؟!
 
أولا: الشك:
قال الماوردي - رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
 
وفيها تأويلات أحدها: يعني على شك. وهو قول مجاهد، وقال البغوي: وأكثر المفسرين على ذلك. والحرف هو طرف الشيء.
 
وقال البخاري - رحمه الله- عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله = قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته غلامًا ولم تنتج خيله = قال هذا دين سوء.. (تأمل في هذه القصة الواقعية المتكررة باختلاف الأسماء والأزمان).
 
وقال عبد الرحمن بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه = أقام على العبادة، وإن فسدت دنياه وتغيرت = انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق = ترك دينه ورجع إلى الكفر.
 

لم أُعلق.. وأترك لك التعليق والإجابة عن ما يلى:
 
هل رأيت هذا الختم من قبل على جواز سفرك؟
هل عبدنا الله على حرف، على طرف أو على شك؟!
 
وهنا أتحدث عن مواقف عملية.. لا عن منطقة الكفر والإيمان.
 
هل دخلت بلاد الحرف من قبل؟
 
كان هذا الختم الأول المميز لتلك البلاد.
 
ثانيا: على شرط:
قال الماوردي رحمه الله: ثانيها (التفسيرات): على شرط. وهو قول ابن الكامل. والمقصود أنه يضع شرطا في ذهنه، فإن جاء هذا الشرط الذي شرطه على ربه = أكمل ونشط في عبادته، وإن لم يأتِ = انقلب.


 
تسمعه أو تسمعها.. تقول أو يقول: عبدت الله كثيرا ليحدث كذا ولم يحدث شيء! هكذا يقول تصريحا أو تلميحا.
 
لن أُعلق أيضًا وأترك لك التعليق.
 
فكان هذا هو الختم الثانى على جواز سفرك إلى بلاد الحرف.
 
ثالثها: على ضعف في العبادة:
وهو قول علي بن عيسى، والمقصود أن زاده قليل بصورة مستمرة؛ فلا يؤهله لتحمل الفتن فينقلب.


لا يزكي نفسه بالصورة المنشودة، فقط يعمل بالموجودة، ولا يحرص على سد الفجوة التعبدية بين عظم التحديات وقوة الطاعات؛ فطاعاته ليست على قدر تحدياته.
 
لن أُعلق أيضًا وأترك لك التعليق.
 
فكان هذا هو الختم الثالث على جواز سفرك إلى بلاد الحرف.
 
رابعها: صنعة الكلام الظاهري من غير واقع قلبي داخلي:
قال الماوردي رحمه الله: فكأنه يعبد الله بلسانه ويعصيه بقلبه.
 
وهي مثال جلي على مخالفة الظاهر للباطن.
ربما لم يهتم أو تعوّد أو لم ينبهه أحد، المهم أن لسانه قطعت صلته بقلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
لن أُعلق أيضًا وأترك لك التعليق.
 
فكان هذا هو الختم الرابع على جواز سفرك إلى بلاد الحرف.
 
قال ابن عجيبة مُعلقًا على هذه الآية: سيروا إلى الله عرجى ومكاسير، ولا تكن مثل من وقف على طرف الجيش إن أحسن بظفر قرّ، وإلا فرّ.
 
ثم قال: ومن الناس من يعبد الله ويسير على حرف (أي: حالة واحدة)، فإن أصابه خير كقوة ونشاط وورود حال = اطمأن به وفرح، وإن أصابته فتنة كضعف وكسل وذهاب حال = انقلب على وجهه ووقف عن السير.


فالواجب على العبد: أن يكون عبدًا لله في جميع أحواله، لا يختار لنفسه حالًا على حال، بل يتبع رياح القضاء ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة، فله في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء.
 
كن عبد المحوِّل ولا تكن عبد الحال، فالحال يتحول ويتغير، أما الله تعالى فلا يتحول ولا يتغير، فكن عبدا لله ولا تكن عبدًا لغيره، فلكل شيء إن فارقته عِوض، وليس لله إن فارقته من عِوض. (انتهى كلامه رحمه الله)
 
لن أُطيل عليك.
 
فالآن بين يديك بلاد الحرف بحدودها ومكانها، والطرق الموصلة إليها، والأختام التي تُوضع على جواز سفرك للدخول إليها.
 
والأمر إليك يا عبد الله لا عبد الحال.
 
لن نخرق السفينة.
وسنغرس الفسيلة.
بإذن الله.