العقلية الرمضانية

  • 197

دائما ما تأسرني وتسرني سؤالات الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.وتمنيت لو ينشط أحد طلاب العلم ليجمعها ثم يقوم بتحليل كل حديث في سياقه الزمني؛ لتكون رحلة علمية في عقل أمنا الصديقة رضي الله عنها.

ومن هذه الأحاديث المحورية حديث ليلة القدر المشهور، وتأمل فضلها على الأمة في سؤالها هذا رضي الله عنها:

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله: "أرأيت إن علمت أي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) [رواه الخمسة غير أبي داود، وصححه الترمذي والحاكم.

ولعلي أحاول أن أتلمس العقلية المرجوة بعد رمضان، فتغير طريقة الإنسان في التفكير وتصوراته وقناعاته هي المؤشر الأهم الأوضح في صحة تغيره، وأنه تغير بحق؛ فاستمرار العقلية التي دخلت رمضان كما هي بعد رمضان نذير لعدم التغيير.

وفي سؤال الصديقة رضي الله عنها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم نذكر ملامح العقلية الرمضانية  التي تتلخص في المحاور التالية :

1-   عقلية تساؤلية:

أجمع عقلاء كل أمة أن العلم هو الذي يولد التساؤل، أما الجهل فلا يولد تساؤلا أبدا.

فكيف لا يسأل الإنسان عن ما يجهله؟!

وعائشة سألت، وشفاء العي السؤال.

ودعونا نعترف أننا نعاني من أزمة عدم السؤال، وإن وجد فهناك أزمة عدم وجود من يجيب، وإن وجد فهناك أزمة الكفاءة إلا من رحم ربي.

قال لي أحد الشباب وهو في الثانوية العامة معبرا عن جيله واضعا له عنوانا من عنده (اختلفت معه أو اتفقت) قال:

نحن جيل أسئلة بلا أجوبة، ثم قال: نحن عندنا أسئلة تحاصرنا (تأمل هذا اللفظة) كالجبال ولا نجد من يجيب عليها (انتهى كلامه).

والأمة التي لا يجد شبابها من يجيبها على سؤالاتهم أمة في خطر.

إنه حق التساؤل يا سادة

ثم قال لي طالب الثانوية العامة: أتدري ما الذي شد انتباهي في القرآن كله؟ فقلت له: ماذا؟ قال:آيات سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال لربه أرني كيف تحي ، ثم قال متألما: إبراهيم عليه السلام سأل والله أجابه (انتهى).

ونحن نتحدث عن صناعة العقلية التساؤلية وعن أهمية السؤال، كان لابد أن نبدأ بالحديث عن خطورة ألا تجد هذه العقلية التربة الدافئة التي تستقبلها؛ لذا أخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا بما ينفع الله به في أمر الناس ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار». 

تأمل في مجتمع كامل يمنع علمه عن سائلين عطشىكيف يكون لجامه؟!

أن يسأل الناس فهذا مؤشر تغيير علمي ورغبة في التعلم.

ومن جميل السياق وبديع التدبر الذي يشم ولا يفرك أن الربع الذي يلي آيات رمضان في سورة البقرة، وأول كلمة بعد ختام الكلام عن رمضان وتفاصيل المسائل فيه "يسألونك"؛

وكأن الأمة لابد أن تخرج بالتساؤل بعد رمضان.

صحوة ويقظة تساؤلية عن كل شيء

عن حالها بين الأمم؟

عن حال شبابها؟

عن ماضيها؟ عن حاضرها؟ عن مستقبلها؟

وعلى مستوى الأفراد:

ماذا بعد؟

كيف أستمر وأثبت؟

كيف أحقق ذاتي وأنفع أمتي؟

يسأل ويسأل ويسأل

أن تخرج من رمضان بمسألة وسؤال

وحال وسؤال

ورغبة وسؤال

والعقلية العلمية تعظم التساؤل

والخبر المفرح في العقلية التساؤلية

والبشرة الجميلة لصاحب هذه العقلية أنه يكتسب أهم مهارات طالب العلم ؛ وهو الفضول الصحي،  ومن ثم التساؤل.

وتأمل لو سكتت السيدة عائشة!

ولكنها سألت وألحت، وأتقنت التساؤل، ويظهر ذلك في حسن اختيار مفردات السؤال وموضوعه وسياقه.

إذًا...
العقلية التساؤلية أول سمات العقلية الرمضانية
 
2-   عقلية عملية:

السيدة عائشة رضي الله عنها في رمضان لم تسأل متى ليلة القدر بالتحديد؟

وهي تعلم قدرها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت عملية، التركيز شعارها، والدخول في الموضوع مباشرة زادها.

ماذا أقول فيها؟

سؤال للعمل وليس للترفيه

سؤال للعمل وليس للمراء والجدال

سؤال للعمل وليس للانتقائية في التعامل مع العشر الأواخر أو التبعيضية في التعامل مع النصوص.

تسأل لتعمل لا لتتكلف

وهذه ضابطة لما قبلها في حق التساؤل

أن تسأل عما يصنعك، عما ينفعك

قال  المَروزيّ رحمه الله: "سألني رجلٌ مرَّة ًعن يأجوج ومأجوج، أمُسْلمون هم؟ فقلتُ له: أحكمْتَ العِلْم كلّه حتى تسأل عن هذا؟" أي القضيّة هنا فقط؟ وفي هذا فقط؟ يأجوج ومأجوج أمُسْلمون هم؟

فالكل ينشغل متى ليلة القدر والصديقة تسأل ماذا أفعل في ليلة القدر؟

وهكذا ينبغي أن تكون العقلية الرمضانية،عملية لا تجد وقتا لرفاهية التقعر.

3-   عقلية الاختصار:

عظمة السنة المحمدية في أنها تناسب كل الناس باختلاف زمانهم ومكانهم وقدراتهم.

دعاء أهم ليلة في العامنصف سطر فقط.

نعم ، نصف سطر فقط، والسلام على ليلة سلامها حتى مطلع الفجر.

اختصار ودقة، وكأنها رسالة للخطاب الدعوي في كل زمان:"كفى إطالة وتطويل"، وواقعنا الرمضاني شاهد على المبالغة في دعاء الوتر في الزمن والعبارات، حتى تحول إلى غاية في حد ذاته للتأثير بدلا من القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله! أضف إلى ذلك  رفع الصوت والتنافس في الارتفاع الصوتي.

والله يقول : {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}(الأعراف :55).
 
قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت، والنداء بالدعاء والصياح. 

والاختصار على هدي النبي صلى الله عليه وسلمدليل على تعظيم وتوقيره والاكتفاء بسنته صلى الله عليه وسلم.
 
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدَع ما سوى ذلك". رواه أبو داود بإسناد جيد.
 
وجميل أن تروي السيدة عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أيضا.
 
قيل أي: يستحب الدعاء الجامع للمهمات والمطالب؛ فيكون قليل المبنى جليل المعنى.

بل هذا هو واقع عمله اليومي صلى الله عليه وسلم.

عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» متفق عليه.
 
زاد مسلم في روايته قال: "وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه". يدخل في الحسنة كل خير ديني ودنيوي، وصرف كل شر.

فالاختصار في الإجابة والاختصار في الدعاء لبنات جليلة في صرح العقلية الرمضانية، وفي خصائص الخطاب الإسلامي المعاصر بعد كل رمضان.

والعالم المعاصر والذائقة الثقافية المعاصرة تميل للاتصال في أغلب منتجاتها:

ففيس بوك من أسباب نجاحه اختصاره المسافات.
وتويتر اختصار الحروف والكلمات.
وواتساب اختصار الوقت والسرعة.
وجوجل اختصار الجهد.
فزماننا عنوانه "الاختصار".

4-   عقلية دقة الاتباع:

من نسأل، ومن نتبع، ومن نقلد، وبمن نتأسى؟!

السيدة عائشة رضي الله عنها تستطيع أن تقول من الدعاء ما تريد، وتحب وتختار في هذه الليلة المباركة وهي الفقيهة العالمة الذكية الألمعية، بنت الصديق تربية المدرسة النبوية...

 ولكنها أرادت أن تقول بلسان الوحي لا بلسانها.

بأولويات الوحي لا بأولوياتها.

بعبارات الوحي وألفاظه لا بألفاظها.

ولعلها سمعت بهذا الحديث:

 عن منصور، عن سعد بن عبيدة: حدثني البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة» قال: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت "قال: قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت".

وهذا هو موضع الشاهد، التدقيق في الاتباع في ألفاظ الوحي.

قال تعالى
 {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وقال {وإن تطيعوه تهتدوا}

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
كلام الوحي وما ينطق عن الهوى
فعقلية التفكير من خلال الوحي أصل أصيل في العقلية الرمضانية.
الوحي هو المصدر الرئيس للتفكير.
 
قال الجُنَيْد رحمه الله: "الطرقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلْق إلا من اقتفى أَثَر الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم، واتَّبع سُنّتَه، ولَزِم طريقتَه؛ فإن طُرُق الخيراتِ كلّها مفتوحةٌ عليه". "تلبيس إبليس1/19) ").
 
5-   عقلية التركيز والاهتمام:

عقل الإنسان يركز على ما يهتم به.

السيدة عائشة، وسيدنا أبو هريرة، وسيدنا عبدالله بن عمرو، على سبيل المثال لا الحصر عقليات علمية؛ لذا تجد منهم الاهتمام المشترك بالمسائل الدقيقة هذه.

في حين أن الصديق والفاروق كانت الاهتمامات مختلفة؛ وهذا لا يعني الأفضلية، ولكن يعني التخصصية.

سيدنا حذيفة وأحاديث الفتن كمثال، وسيدنا ابن عباس والقرآن كمثال، وسيدنا عبد الله بن عمر والتعبد كمثال.

فالسيدة عائشة مهتمة فركزت سؤالها ثم سألت؛ فخرجت للأمة بهذا الكنز "دعاء ليلة القدر".

والتركيز والاهتمام يظهر جليا في كلمة "ماذا أقول؟"

لم تتكلم عن القيام والصدقة وقراءة القرآن أو الاعتكاف أو ...

تركيز "ماذا أقول؟"

روعة التركيز في فن التساؤل

والعقلية الرمضانية عقلية تهتم وتركز لتنتج وتقدم للأمة نموذجا يغري بالاقتداء في تخصص أو مجال.

وفي زمن التشتت الإلكتروني المعلوماتي اليومي تكاد تكون سمة التركيز والانتباه هي السمة الأبرز والأهم لكل صاحب هدف.

وتؤكد الدراسات والبحوث العلمية أن أكثر الموارد ندرة وأهمية في عصرنا الحالي قد أضحى هو "الانتباه"، فالانتباه أو التركيز قد أصبحا موردًا اقتصاديًا جديدا حتى أصدر في ذلك الكتب ومن أهمها:

 كتاب:  اقتصاد الانتباه
The Attention Economy 
Understanding the New Currency of Business
 
فالتركيز والانتباه والاهتمام لبنات جليلة أخرى في العقلية الرمضانية التي صنعت في رمضان.

وملخص ما مضى أن رمضان كان تدريبا عمليا من خلال نظامه التعبدي النبوي على أركان العقلية الرمضانية الخمس، وأترك لك التفكر في ذلك.

رمضان لبناء العقليات الجديدة، وكانت هذه محاولة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في رده على السيدة عائشة، فماذا لو أفردنا التفكر والتدبر في آيات الصيام؟!

الفرصة متاحة للجميع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.