البيان الأول مشروع إصلاح [1/2]

  • 201

هذا ما سمعناه، وتكرر كثيرا على مسامعنا، أن الانطباعات الأولى تدوم.

سمعنا هذه الجملة كثيرا بعد مواقف كُثر.

وصدق من قال ذلك، فالتصاق الانطباعات الأولى في العقل والقلب، أزيد من غيرها بكثير، فماذا لو كان هذا الانطباع عن سيد ولد آدم، وخليل الرحمن، وأفضل مَنْ أشرقت عليه الشمس -صلى الله عليه وسلم-، حين أتى إلى يثرب، والتي أنارها الله بقدومه وأصبحت المدينة المنورة، وكان بيانه الأول -صلى الله عليه وسلم-وكلماته الأولى -صلى الله عليه وسلم-.

والكل ينتظر، والكل يراقب ويرتقب، تُرَى ما هي الكلمات الأولى؟! وما هي الأوامر الأولى؟! وما هي القيم الأولى؟!وما هي النصائح الأولى ؟! وما هي؟! وما هي؟! أسئلة كثيرة لعلها دارت في أذهان أهل يثرب يومئذ، بمختلف توجهاتهم المتفاوتة من خير خلق الله -صلى الله عليه وسلم-.

ويظل البيان الأول له أهميته وبريقه ورونقه، وحتى الآن تتوق النفس البشرية في كل زمان ومكان؛ لسماع الكلام الأول لكل زعيم أو قائد، أو لكل صاحب بداية، فماذا عن شوق النفس لسماع أول بيان لرسول الله، وخاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-.

ومن رحمة الله بنا أن يُنقل لنا هذا البيان المرتقب، رجل ذو فهم وعقل من أحبار يهود، لم تغرقه أمواج بحر العقل الجمعي اليهودي، الذي قاده أحبار يهود؛ فأبعدوا يهود عن سماعه ابتداء، فضلوا وأضلوا؛ فكانت البصيرة وراحة العقل من نصيب عبد الله بن سلام -رضي الله عنه وأرضاه-فقص لنا هذا البيان.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ، لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» [أخرجه أحمد: 23784، والترمذي: 2485، وقال: صحيح، وابن ماجه: 1334 واللفظ له. والحاكم في المستدرك: 3/ 14، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح].

يا لها من وصية، ويالها من كلمات، وياله من بيان، لا ينطق به إلا نبي يوحى إليه،

وأزعم أن هذه الكلمات المختصرة مشروع إصلاحي؛ لبناء المجتمعات وإصلاحها، والمتأمل في الخطاب قبل تحليله يلحظ هذه النقاط الخمسة:

1-صناعة إنسان الواجبات قبل إنسان الحقوق، فالنبي -صلى الله عليه وسلم-وضع بوصلة تغيير في يد كل من يسمعه، إن البداية من عندك من خلال، قيامك أنت بواجبك، قم بما إليك أولا تجاه المجتمع والناس،ثم طالب بحقك.

2 -المسؤولية شعارٌ لمجتمعٍمسؤول، فالكل مسؤول،مسؤول عن الكلمة التي ينطقها لمن، ومتى، وما هي؟ ومسؤول عن طعامه، لمن، وكيف؟ ومسؤول عن رحمه كيف يصله؟ ومسؤول عن ليله كيف يقضيه؟مسؤول عن نفسه ووقتها وكلامه.

ويظهر ذلك جليًا في كلمة والناس نيام، مَنْ الناس؟ الناس ما سواك أنت يا قائم الليل، لا تنشغل بتقييم غيرك حاليًا، نعم أدِّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولكن قلبك يمتلئ شفقة ورحمة بالناس وأنت قائم.

حين سأل طلاب أبو يوسف القاضي أبا يوسف فقالوا: نراك لا تنام، فقال: «وكيف ننام وقد نامت عيون المسلمين تعويلا علينا»، فأنت مسؤول.

3-العملية الواقعية، فالنصائح عملية واقعية، تترجم سريعا إلى إجراءات في أجندة اليوم، من غير تفلسف أو سفسطة أو تقعر، كلمات يسيرة تناسب الجميع.

4 –الاختصار، وهي من سمات الخطاب النبوي الثابتة، وهي من مخالفات الزمان الواضحة عند الكثير من أهل الخطاب الدعوي إلا من رحم ربي، فالتطويل والإطالة والإطناب شكوى يعلن عنها ويصرح بها كثير من المستمعين.

5 –"يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، تختصر الكثير في إنسانية الخطاب النبوي وفطريته، التي تناسب الجميع باختلاف الثقافات والأعمار والأحوال، خطاب يخاطب الناس، قبل أن يخاطب أهل الكتاب، أو يخاطب الذين آمنوا، فعالمية الخطاب الإسلامي تظهر في قيمته الإنسانية؛ لذا بدأ البيان بـ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ".

فكانت هذه السمات الخمسة هي أسوار البيان الأول، قبل أن يذكر اللبنات الأولى

للأمن المجتمعي، والأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي، والأمن الروحي.

كيف كان ذلك وما دوره في بناء المجتمع؟ هذا ما سنوضحه في المقال القادم بإذن الله

"لن نخرق السفينة، وسنغرس الفسيلة".