استفراغ الجهد في الطاعات المقدورة وعدم تعجل النتائج

  • 172

من يطالع منهج الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله عز وجل، وإصلاح المجتمعات، وإعلاء كلمة الله في الأرض، يجد من أهم سمات منهجهم المبارك، الانشغال بطاعة الوقت المقدور عليها، إذ لكل وقت طاعة، ولا تكليف إلا بمقدور، فالمطلوب من المكلفين، استفراغ الجهد في الإتيان بالطاعات التي استوفيت شروطها، وانتفت موانعها، فيأتون بها على أكمل الوجوه، أما ما كان من الطاعات معجوزا عنه، فهذه لا تدخل في دائرة التكليف بالنسبة للعبد، اللهم إلا من حيث اعتقاد وجوبها إن كانت واجبة، أو استحبابها إن كانت مستحبة، أما من حيث المطالبة بامتثالها، والإتيان بها شرعا، فلا يطالب بذلك، إذ من شروط الفعل حتى يصح التكليف به أن يكون مقدورا للمكلف، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ "[أخرجه البخاري: 7288]. وقال عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286]، قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: (يعني بذلك – جل ثناؤه -: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها ولا يجهدها ...) ثم نقل عن ابن عباس قوله: قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله – جل ثناؤه: وقال { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]،  وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]

ويقول القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286]، التكليف هو الأمر بما يشق عليه. وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري. والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر جزم. نص الله تعالى على أنه لا «3» يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر" [تفسير القرطبي:3/ 429]

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل: إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى، وهذه قد تصلح للضدين.

وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، وهذه المذكورة في قول الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات} [سورة النساء: 25]، وقوله تعالى: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون} [سورة التوبة: 42]، وقوله في الكفارة: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} [سورة المجادلة: 4] فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل، فلا يكون مع الفعل.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: " «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» "، فإنما نفى استطاعة لا فعل معها.

وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم في الدين من حرج.
والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان يسميه [بعض] الناس مستطيعا.

فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟! " [منهاج السنة النبوية: 3/47 وما بعدها].

فالطاعات غير المقدورة إذن لا يكلف العباد بالإتيان بها، نعم قد يكونون مطالبين بالسعي لاستكمال شروطها؛ حتى يتيسر الإتيان، بها كما هو الحال في الجهاد حيث يسقط الوجوب عند عدم القدرة من الجهاد إلى الإعداد، ولذا أمر الله الأمة أن تعد العدة لجهاد أعدائها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطاعات في ذلك قسمان:

1. قسم أمر الله عز وجل عباده بالعمل على تحقيق شروطه، والتي تتوقف صحته عليها كالطهارة بالنسبة للصلاة، والإعداد بالنسبة للجهاد، وهذا ما يعرف بمسألة " ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب "، إذًا الوسائل لها أحكام المقاصد؛ شريطة أن تكون هذه الشروط بمقدور المكلف.

2. وقسم لا يطالب العبد بتحصيل شروطه، وهي التي يتوقف الوجوب عليه: كبلوغ  النصاب في الزكاة ، فالشرع لا يطالب المكلفين بالسعي في تحصيل المال حتى يبلغ النصاب لتجب عليهم الزكاة، وهذه تعرف : " بما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب " وعلى كل فإننا نجد هذا أوضح ما يكون في منهج الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فما أمر نبي من الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه أتباعه بأمر لا يقدرون عليه، بل  يحثهم على استفراغ الجهد في الطاعات، المقدورة للإتيان بها على الوجه الأكمل، والذي سيترتب عليه تيسير ما بعده من الطاعات، لأنه " من أتى بالمقدور عليه يسر الله له المعجوز عنه " ، فالطاعات بعضها مبني على بعض، كلما أتى العبد بما قدر عليه تيسرت له التي تليها، أما الانشغال بالمعجوز عنه الخارج عن القدرة سيترتب عليه ضياع المأمور بامتثاله وتحصيله، فيقع العبد في الإثم والمخالفة، والتي سيكون من عقوباتها حرمانه التوفيق وخذلان العبد، فضلا على أنه لن يحصل المعجوز عنه، لعدم توفر شروطه، ولوجود موانعه.

وفي سير الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه بدءا من نوح عليه السلام، وهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، وحتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين نجد هذا واضحا جليا، فما رأينا نبيا تجشم قتال أعدائه حال استضعافه، ولا أمر أتباعه بذلك، ولا دخل معهم في ألاعيب سياسية، يترتب عليها التنازل عن بعض الثوابت العقدية، أو موافقتهم على شيء من كفرهم أو شركهم بغرض العمل على إقامة دولة الإسلام، بل جميعهم عليهم السلام يبدءون أقوامهم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك؛ فيبلغون الحق للخلق غير وجلين، ولكن بحكمة، وعلى بصيرة، ويأتون بالطاعات المقدورة .

فهذا نبي الله موسى عليه السلام عندما قال فرعون عن بني إسرائيل {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف: 127]، فبماذا أمر قومه عليه السلام، أمرهم بالصبر، فقال لهم: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128]، فلم يأمرهم بمواجهة عدوهم وهم مستضعفون، بل أمرهم بالصبر، مع تذكيرهم بأن العاقبة لأهل الحق، فلا بد من اليقين في وعد الله.

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، يتعرض هو وصحبه الكرام في مكه لأشد أنواع التعذيب والتنكيل، وهو مع ذلك صابر محتسب، وأمر صحبه الكرام بالصبر على الأذى وكف الأيدي، مع استفراغ الجهد في طاعات الوقت في هذه المرحلة المباركة من مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم، فهو قائم بالدعوة إلى التوحيد، وبيان قبح الشرك، مع إقامة الصلاة، وتربية النفس وتزكيتها؛ لتتأهل لحمل الأمانة، وكان البعض يود أن لو فرض القتال آنذاك، فلم يوافقهم على ذلك، إذ لكل وقت طاعة، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يصرف همه إلى الوقت الحاضر.

والعجيب، أن بعض النفوس تميل إلى ما لم يحن وقته من الطاعات، وتتملص مما جاءهم، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [النساء: 77].

يقول العلامة السعدي رحمه الله

كان المسلمون -إذ كانوا بمكة-مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد:

منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل.

ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم.

وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: هلا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر" : [ تفسير السعدي: 187] .

قلت: في هذا بيان لما يجب على العاملين للإسلام، من مراعاة طبيعة كل مرحلة، وما يجب فيها من الطاعات؛ فيبذلوا قصارى جهدهم في تحصيلها على الوجه الأكمل، أما الطاعات الخارجة عن مقدورهم لعدم توفر شروطها، فليسوا مطالبين بها شرعا فالانشغال وبما لم يحن وقته يترتب عليه ضياع الواجبات، وتفويت المصالح.

وانظر معي إلى قوله تعالى على لسان من نبي الله شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

يقول العلامة السعدي رحمه الله في معرض ذكره لما في القصة من فوائد وعبر:

"ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية، والدنيوية، ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره ما يقدر عليه"[تفسير السعدي: 389].

يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:" قال تعالى مخبرا عما قاله شعيب لقومه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].

فعلى الداعي المسلم أن تكون له إرادة جازمة للإصلاح، في ضوء معاني الإسلام ومناهجه في الإصلاح، وأن تكون إرادته للإصلاح كاملة وثابتة ودائمة، وأن يسعى لتحقيق هذه الإرادة في الواقع بتغيير المنكرات والمفاسد والانحرافات، التي يبصرها في المجتمع، وأن يكون سعيه هذا بقدر استطاعته، التي يجب أن يعرف مقدارها بميزان الشرع؛ لتكون استطاعته حقيقة لا متوهمة، وعلى أساسها يكون مقدار ما يكلف به شرعا من سعي وفعل لتحقيق الإصلاح الإسلامي المنشود، وعلى الداعي أن يعرف جيدا أن الاستطاعة على الإصلاح ليست شيئا واحدًا، وإنما هي أنواع متعددة، تختلف باختلاف نوع الإصلاح المطلوب، ونوع الجزئية المطلوب منه إصلاحها في ظرف معين، ومكان معين، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

إن مسألة الإصلاح بقدر الاستطاعة، هذه المسألة يجب أن يفهمها الداعي في ضوء الضوابط التالية:

يزن مقدار استطاعته بالميزان الشرعي، وأن يعرف لأي نوع من الإصلاح تصلح استطاعته القيام به، وما هي الأولويات في سلم ودرجات الإصلاح ومراحله، التي يجب أن يقدم له قدرته واستطاعته، ويستنفذها فيها قبل غيرها، وبعد هذا كله يتقدم بكل جدٍ، وبسعي منظم معتمدًا على الله في بلوغ هدفه في الإصلاح وشعاره في ذلك: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].