الرئيس المصري .. قراءة في خطابين

  • 179

لن تكون مبالغة القول إن الثامن من يونيو 2014 يمثل يوما تاريخيا فى حياة الدولة والشعب المصرى، دون أى ابتذال لكلمة تاريخية؛ فصحيح أن ثمة أحداثا توصف بأنها تاريخية فى حين أنها أقرب إلى الحدث العادى بما جعل تكرار هذه الكلمة محل شك من كثيرين، إلا أن ما جرى فى هذا اليوم الذى يُعد نقطة تحول حقيقية فى بناء مصر الجديدة، يستحق أن يوصف بأنه يوم تاريخى، فلأول مرة فى تاريخ الدولة المصرية يتم تسليم رسمى للسلطة من خلال توقيع الرئيس المنتخب والرئيس المنتهية ولايته وثيقة تسليم السلطة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وهو ما يحمل معه دلالات عرجت عليها خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسى سواء فى خطابه الأول عقب تسلمه المنصب رسميا أمام المحكمة الدستورية العليا أو فى خطابه الثانى فى حفل تنصيبه بقصر القبة، حيث جاء الخطابان مكاملان لبعضهما البعض؛ ففى الوقت الذى وضع فيه الخطاب الأول رؤى كلية وخطوطا عامة لما ينوى القيام به، نجد أن الخطاب الثانى جاء شارحا لبعض التفاصيل والقضايا بما يمكن معه القول إنه تضمن استعراض سريع لبرنامجه الرئاسى خلال الفترة المقبلة.

وفى إطار قراءة الخطابين معا، يمكن تسجيل عدة ملاحظات مهمة، أبرزها ما يلى:

أولا- أعادت لغة الخطابين ومفرادتهما شكل الدولة المصرية بتراثها العريق وقيمتها التاريخية ومكانتها الدولية والإقليمية، فبمجرد المقارنة السريعة بين لغة الخطابين واللغة التى استخدمها الرئيس السابق محمد مرسى يكتشف الفرد أن الأخير كان لغته تصلح للخطابة على المنابر أو فى المنتديات والمؤتمرات، فى حين عكست لغة الخطابين أننا بصدد رجل دولة، وهذا ليس مصادفة فالرئيس السيسى جاء من مؤسسات الدولة بل من أكثر مؤسسات الدولة ضبطا وتنظيما. وهذا يستدعى أن نعيد القول بأن ثمة بون شاسع بين لغة إدارة الدول ولغة الخطابة على المنابر وفى المؤتمرات.

أضف إلى ذلك أن الخطابين يظهران أن الرئيس السيسى يعلم قدر مصر ومكانتها وقيمتها وقامتها فى العالم. كما يعلم كذلك عبء المسئولية وضخامتها وصعوباتها.

ثانيا- عكست مضامين الخطابين عن اتساق فى الرؤية ووضوح فى الهدف، وتلاقى فى الأفكار، وانسجام فى السياسات؛ وهو ما يستدعى المقارنة السريعة أيضا بين خطابات الرئيس السابق التى كان كل منها يتناقض ويتعارض مع الذى يليه، بل ربما يتضمن الخطاب الواحد أفكار متعارضة. فى حين أن مضمون الخطابين يكمل منهما الآخر كما سبق الإشارة. بما يجعل المتابعين سواء فى الداخل أو الخارج قادرين على تحديد رؤية الرئيس الجديد ونهجه فى بناء الدولة، وهذا أمر ضرورى حتى يتمكن الخارج من تحديد آليات التعامل مع الدولة المصرية، وكذلك حتى يستطيع الداخل (يقصد به مؤسسات الدولة وأجهزتها) التواصل مع فكر الرئيس ومنهجه وسياساته، بما يساعد على تجسير الفجوة بين القادم الجديد وبين مؤسسات راسخة بما يضمن نجاحه فى تنفيذ برنامجه الرئاسى. ولعل هذه الفجوة التى كانت موجودة بين الرئيس السابق وأجهزة الدولة يرجع جزء كبير منها إلى غموض خطابات الرئيس وتناقضها، فلم تكن تلك الأجهزة قادرة على فهم ما يريده، وهو ما يجد تفسيره فى أنه كان هناك أكثر من رأس للدولة، وهذا ما حاول توضيحه الرئيس السيسى فى خطابه الثانى بقوله:"لن أسمح بخلق قيادة موازية تنازع الدولة هيبتها وصلاحيتها بكل ما أعنيه ذلك من أثر وانعكاسات هدامة على الاثنين معا، قيادة مصر واحدة فقط".

ثالثًا- مثلت فكرة العقد الاجتماعى الواردة فى الخطاب الثانى للرئيس تصحيحًا لبعض الأفكار المغلوطة التى برزت على الساحة المصرية فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير وموجتها التصحيحة فى الثلاثين من يونيو؛ فقد تركز حديث غالبية المواطنين على كيفية حصولهم على حقوقهم من الدولة، وهذا أمر لا مفر منه. إلا أنه فى مقابل البحث عن حقوقهم يستوجب الأمر أداء واجباتهم؛ وهو ما يكشف الفارق الكبير بين خطاب الرئيس السابق الذى تضمن الحديث عن تمنيات وأمنيات ووعود وتعهدات سرعان ما كشف الواقع زيفها، وبين خطاب الرئيس السيسى الذى اتسم بالمصارحة والوضوح، خاصة حينما ذكر بأن "العقد الاجتماعي بين الدولة ممثلة في رئيسها ومؤسساتها وبين الشعب لا يمكن أن يستقيم من طرف واحد وإنما يتعين أن يكون التزاما على الطرفين"، شريطة أن يتحقق فى ضوء هذا الالتزام الهدف الأكثر أهمية فى أهداف الثورة المصرية وهو تحقيق "العدالة الاجتماعية" والتى أدى غيابها إلى خروج المصريين مرتين خلال عامين. صحيح أنه أوضح أن تقاسم الأعباء والمسئوليات تعنى تقاسم المغانم والمكتسبات، إلا أنه من المهم أن تكون هناك فلسفة واضحة وسياسات محددة وآليات منضبطة لتحقيق ذلك بعيدًا عن أية شعارات رنانة أو خطب تعيد إلى الأذهان سياسات النظامين السابقين؛ فالشعب الذى تحمل معاناة أكثر من ثلاثين عاما لم يعد يستطيع التحمل يوما واحدا دون أن يرى الأمل فى قادته حينما تخطو خطوات جادة وحقيقية على المسار الصحيح.

رابعا- حمل الخطاب الثانى كثير من القضايا المهمة التى قد لا يتسع المقام لذكرها وإن مثلت قضية المصالحة الوطنية محور مهما فى بناء المستقبل شريطة أن يكون التصالح – كما ذُكر- مع من اختلف من أجل الوطن وليس عليه، وتمثل هذه الرؤية دعوة لأبناء الوطن كافة للالتفاف حول الرئيس المنتخب لمعاونته فى مهامه الصعبة ومسئولياته الجسام. كما تمثل قضية ترسيخ الأخلاق والقيم النبيلة والمثل العليا، محورا مهما فى برنامجه، وأعتقد أنها المرة الأولى الذى يُولى فيها رئيس مصر اهتماما كبيرا بهذه القضية، بما يمثل ردا عمليا على الجماعات التى حاولت تشويه ثورة الثلانين من يونيو وكأنها كانت ضد الدين، فكشفت مفردات الخطاب ومضامينه عن مكانة الدين والأخلاق ودور المؤسسات الدينية فى المرحلة القادمة، وهو ما يؤكد على صحة موقف حزب النور ونهجه فى التعامل مع القضايا المختلفة، ذلك النهج المبني على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وقد حاول منذ الثلاثين من يونيو أن يصحح المفاهيم المغلوطة والأفكار المشوه التى تبثها هذه الجماعات.

نهاية القول إن القراءة التحليلية لخطابى الرئيس المصرى تكشف عن أن مصر مقبلة على مرحلة جديدة تستوحى روح الثورة بموجتيها، وتستهدف بناء دولة عصرية على أسس صحيحة يمثل الدين مرتكزا أساسيا فيها.