موعد مع التاريخ

  • 171

أيام قليلة تفصلنا عن الاستحقاق الثانى فى خارطة الطريق التى تم التوافق عليها فى أعقاب الثورة التصحيحة فى الثلاثين من يونيو، والمتمثل فى الانتخابات الرئاسية التى يتنافس فيها مرشحان فقط هما (المشير عبد الفتاح السيسى والسيد حمدين صباحى)، على عكس الانتخابات الرئاسية التى جرت فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير التى تقدم إليها ما يتجاوز العشرين مرشحًا، شارك فى السباق منهم ثلاثة عشر مرشحًا فى جولتها الأولى، واقتصرت المنافسة فى جولة الإعادة على كل من الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسى؛ لتُحسم فى النهاية لصالح الأخير الذى لم يتمكن من الاستمرار فى هذا المنصب أكثر من عام، فسرعان ما طالب الشعب المصرى بإسقاطه وعزله؛ ليؤكد بذلك على دلالة مهمة عبر عنها المشير السيسى فى وصفه لطبيعة الحكم فى مصر حينما قال:"إنه كرسي من نار"، فرغم ما يراه البعض من أن هذا الوصف به كثير من المبالغة على أساس أن السلطة والحكم بصفة عامة مسئولية صعبة، سواء أكان هذا الحكم فى مصر أو فى أية دولة أخرى.

 والحقيقة أن هذا القول صحيح فى عموميته، إلا أنه يفتقد الدقة فى خصوصية الحالة المصرية، ومن دون الدخول فى تفاصيل الدور والمكان والمكانة التى تشغلها مصر على حد وصف الجغرافى المصرى جمال حمدان، فإن المتابع لمن تولى الحكم فى مصر على الأقل بدءًا من العصر الحديث مع وصول محمد على إلى سدة الحكم فى أوائل القرن التاسع عشر وتحديدًا عام 1805، يستطيع أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن "كرسى الحكم" بالفعل كان بمثابة لهبا من نار يحترق كل من جلس عليه ثم انحرف عن المسار الطبيعى للحكم، أى لم يؤد مسئولياته على الصورة المطلوبة، أو على حد وصف جريدة المصري اليوم التى اعتبرت أن "لكرسي الحكم المصري لفحاته كما نفحاته أيضا"، فحينما نستعرض مآلات حكام مصر ورؤسائها يتبين لنا أن مصيرهم تراوح ما بين الاغتيال كما فى حالتى عباس حلمى الأول وأنور السادات، والنفى كما فى حالة الخديو إسماعيل، والتخلى عن الكرسى كما فى حالتى الملك فاروق فى يوليو 1952 وحسنى مبارك فى  فبراير 2011، والعزل كما فى حالة محمد مرسى فى يوليو 2013، دون أن نغفل وفاة جمال عبد الناصر الذى توفى مريضا، وقيل إنه تعرض لمؤامرة وتم اغتياله بالسم دون أن يحسم التاريخ حتى اليوم سبب الوفاة.

يعنى كل ما سبق، أنه على الرئيس القادم لمصر أن يدرك حجم المخاطر وصعوبة التحديات الداخلية بدءا من الأمن وضرورة استعادته، مرورا بالاقتصاد وأهمية انتشال أوضاعه، وصولا إلى تحقيق طموحات وأهداف المواطن الذى خرج مرتين خلال ثلاثة أعوام رافعا شعار"الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية"؛ فالرئيس القادم إذا لم يدرك أن ثمة متلازمة يجب أن تتحقق خلال أعوامه الأربعة المقبلة، وهى تلك المتمثلة فى (إرساء نظام حكم ديمقراطى يُعلى من سيادة القانون، ويحترم أحكام القضاء، ويصون حريات المواطنين كافة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، عليه أن يحقق معدلات نمو يعوض بها ما فات شريطة أن يتحول هذا النمو إلى تنمية شاملة يشعر بها المواطن، وإلا أصبحنا نتحدث بلغة الأرقام والإحصاءات دون أن يكون لها مردود على أرض الواقع أو تغير فى نمط حياة المواطن الذى تحمل الكثير؛ فمن المهم أن يدرك الرئيس القادم أن المواطن حينما ضحى بروحه لم يكن هدفه تغيير نظام الحكم أو شكله بقدر ما كان هدفه تغيير نمط الحكم وسياساته، بحيث تنعكس إيجابا على حياته ومستقبل أولاده؛ كما عليه أيضا أن يدرك حجم التحولات والتغيرات التى تشهدها المنطقة والعالم من حوله، فما تواجهه المنطقة من اضطرابات وصراعات بعضها داخلى ومعظمها خارجى تستوجب من الجالس على كرسى الحكم فى مصر بحكم تاريخها وجغرافيتها أن يملك رؤية حقيقية وواقعية قادرة على التعامل مع تلك التحديات بصورة تعيد لمصر مكانتها الإقليمية وريادتها، دون أن يغفل أن النظام العالمى اليوم يمر بمرحلة سيولة واسعة بسبب سياسات أقطابه الكبرى، بما يستوجب عليه أيضا أن يعى آليات التحرك وفنونه وكيفية توجيه بوصلة سياسته الخارجية حتى لا يقع فى مفترق الطرق).

صفوة القول: إن الأيام المقبلة التى ستشهد بدء المرحلة الثانية فى خارطة الطريق بوصول رئيس جديد إلى قصر الاتحادية، محملة بالعديد من التحديات والصعوبات التى تتطلب التعامل معها بحنكة سياسية ودراية عملية ورؤي واقعية ونظرة مستقبلية، ومن يملك تلك السمات فإنه يكون على موعد مع التاريخ مسجلا نجاحاته ومسطرا له أروع الأمثلة فى صفحاته، وإلا فشل فى الاختبار ليلحق بقطار التاريخ الذى لا يرحم من يقف أمامه.

 فعلى الرئيس القادم أن يختار مكانه من الآن: إما أن يكون على موعد مع التاريخ، أو يقع تحت عجلات قطاره.