وجوب الاعتبار بحال من فقدوا الأمن والاستقرار

  • 158

حينما انحازت الدعوة السلفية إلى خيار الاستقرار والحفاظ على الدولة لتبقى متماسكة قوية، وتجنبا للمآسي والويلات التي رأيناها من حولنا لشعوب تفككت دولها، وتمزق كيانها؛ فرفضت خطاب التكفير والتشويه، وما ينبني عليه من إثارة القلاقل والاضطراب، وإراقة للدماء، وذهاب لنعمة الأمن؛ راح البعض ولا زال يُشغِّب على موقفها ويطعن في توجهها، وإن دل هذا فإنما يدل على جهل هؤلاء بمقاصد الشريعة الغراء التي توجب العظة والاعتبار بأحوال الأمم، وتجارب الدول كما قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)، علاوة على ما جاءت بها أدلتها مذكرة بعظيم نعمة الأمن في حياة الأمم والأفراد، حيث امتن الله عز وجل على قريش بذلك فقال تعالى: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، ولمَ لا يكون الأمن نعمة؟!

وبالله عز وجل ثم بالأمن يُحج البيت العتيق، وتُعمر المساجد، ويُرفع الأذان من فوق المنارات، ويأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتأمن السبل، وتُردُ المظالم لأهلها، فيُنتصر للمظلوم، ويُردع الظالم، وتُقام الشعائر، ويرتفع شأن التوحيد من فوق المنابر، ويجلس العلماء للإفادة، ويرحل الطلاب للاستفادة، وتُحرر المسائل، وتُرف الدلائل، ويُزار المرضى، ويُحترم الموتى، ويُرحم الصغير ويُدلل، ويُحترم الكبير ويُبجَّل، وتُصل الأرحام، وتُعرف الأحكام، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، ويُكرم الكريم، ويُعاقب اللئيم، بل عليه استقامة أمر  الدنيا والآخرة، وصلاح المعاش والمعاد، والحال والمآل .

ولعظم شأن نعمة الأمن قدمها إبراهيم عليه السلام في دعائه على الرزق فقال: "رَبِّ اجْعَلْ هَ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ"؛ ولذا يقول فضيلة الشيخ " صالح آل فوزان " حفظه الله: ( فلا شك أن توفر الأمن مطلب ضروري، الإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب؛ ولذا قدَّمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق "" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ? قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى? عَذَابِ النَّارِ ? وَبِئْسَ الْمَصِيرُ "؛ لأن الناس لا يهنئون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولأن الخوف تنقطع معه السبل التي بواسطتها تُنقل الأرزاق من بلد لآخر؛ ولذلك رتبَّ الله على قُطَّاع الطرق أشد العقوبات، وجاء الإسلام يحفظ الضروريات الخمس وهي : (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال)، ورتبَّ حدودا صارمة في حق من يعتدي على هذه الضروريات، سواء كانت هذه الضروريات لمسلمين أو معاهدين،  فالكافر المعاهد له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة) .

ومعلوم أن الأمن والاستقرار لا يتحققان إلا في ظل دولة قوية متماسكة تحكم الناس وتسوسهم بما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، فأمور الدين والدنيا لا تُنَظَّم إلا بذلك؛ ولذا كانت ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ( يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحجج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بقوة وإمارة؛ ولهذا روي "أن السلطان ظل الله في الأرض"،ويقال : ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تُبين ذلك) .

فانظر رحمك الله إلى قوله: ( يُقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان والتجربة تُبين ذلك ) وصدق والله؛ فها نحن نرى الشعوب التي سقطت بلادها وتشرذمت دولها بعد أن كانوا يحيون في بلادهم آمنين، وبين ذويهم مطمئنين، أضحوا في البلاد مُفَرَّقين، وفي دروب الأرض مُشتَّتين، قد أُهين منهم الكريم، وتنكَّر لهم اللئيم، واحتقر العزيز المنيع، وتقطعت بينهم الأواصر والأرحام، وحيل بين الرجل ووالديه، وبينه وفصيلته التي تؤويه، وأضحت الحرائر العفيفات كالأيتام على موائد اللئام يتعرضن للفتن بعد أن فقدن العائل والوطن، قُتل منهم الآلاف والملايين، وهُدِّمت البيوت والمساجد بعد أن كانت معمورة بكل راكع وساجد، وانتهكت الحرمات، وسُلبت الأموال، ومن هول ما لاقوا من الآلام وذاقوا من الجراحات والأسقام، وعانوا من الفوضى والانقسام، أمسوا يبكون مكان الدمع دمًا لسالف الأيام، ليس هذا بحديث خرافة ولا نسج خيال، فهل أتاك نبأ العراق وسوريا والصومال؟! فأي عاقل يا ترى يرضى بذالكم المآل؟!

 فيا معشر العقلاء، هلَّا أدركتم الآن لماذا حذَّر علماء السنة النبلاء عبر التاريخ من خيار الفوضى وما يجلبه من بلاء، أدركتم لماذا يحرصون على بقاء الدول متماسكة ولو فيها ظلم أو جور أو عناء؟! فهل يتصور مؤمن يخشى يوم اللقاء أن ذلك منهم حب للظلم أو ركون لدنيا تذهب هباء، كيف وهم أبعد الناس عن ذلك، وأقل الناس مما في يدي الحكام، فوالله إنهم ما قالوا ذلك إلا حفاظًا على ما بقي من الخير، وصيانة للدماء من السفك، والحرمات من الانتهاك، ودرءًا للمفاسد الجسام، ومنعًا للفتن العظام التي تُفضي للضياع والهلاك والاصطلام .

وأنتم يا شباب الأمة وأبنائها، هل تتخيلون أنكم إن أسقطتم الدول، مع أن هذا لا يكون إلا بإهلاك الحرث والنسل، هل تظنون وأنتم على هذا الحال من الضعف ستُتركون وشأنكم؟! أم أن أعداءكم متربصون بكم؟! فسيشعلونها حربًا أهلية لا تبقي ولا تذر، تأتي علي البوادي والحضر، وتأكل الزرع والشجر، وبعد أن تخلف الخراب والدمار، ويصطلي الجميع بالنار، يكون تدخل الأعداء الأشرار، كما رأينا ذلك عيانًا في كثير من الأقطار، فتكون الأشلاء والجماجم للمسلمين، ولعدوهم جني الثمار، فتصبح كمن يمسك برأس البقرة وقرنيها، وعدوه يحلبها، فالأمر كما قيل :

على كتفيه يبلغ المجد غيره  ***   فهل هو إلا للتسلق سلمٌ