وثيقة بروكسل ... قفزة فى الهواء

  • 155

ما زالت الأيام حُبلى بالتطورات والمستجدات التى تشهدها الساحة السياسية المصرية، وكان آخر هذه المستجدات صدور ما يسمى بوثيقة بروكسل ذات المبادئ العشرة. ومن دون الدخول فيما أثارته هذه الوثيقة فور صدورها من جدل وتباين فى مواقف مختلف الأطراف سواء تلك المعارضة لها أو المتحفظة عليها أو حتى المؤيدة، يمكن القول إن القراءة المتأنية للوثيقة سواء من حيث توقيتها أو مكان صدورها أو ما ورد بها من مبادئ، تستوجب تسجيل عدة ملاحظات، أهمها:

أولا- عكس توقيت صدور هذه الوثيقة بالقرب مع انطلاق حملات الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها فى السادس والعشرين والسابع والعشرين من الشهر الجارى، مدى حرص أصحاب المبادرة على أن يكون لهم مشاركة فى هذا الاستحقاق الانتخابى، اعتقادا منهم أن طرح أية مبادرات للمصالحة فى هذا التوقيت يمكن أن تؤثر فى النتيجة الشبه محسومة لصالح المرشح المشير عبد الفتاح السيسى، وذلك فى محاولة لإظهار أن هناك مبادرات عديدة تحاول بها هذه القوى أن تتجاوز مرحلة ما بعد الثلاثين من يونيو وأن تكون لها دور فى ترتيبات الوضع الجديد، ولكن هذه الحسابات وإن بنيت على ترتيبات خاصة بهم إلا أنها تظل غير معبرة عن تطورات الأوضاع على الأرض، بل يعكس اختيار هذا التوقيت تحديدًا أن جماعة الإخوان مازالت غير قادرة على استيعاب عنصر الزمن فى حساباتها، بمعنى أكثر تحديدا غياب عنصر الوقت عن صانعى القرار فى الجماعة وتحالفاتها يُفقدها الكثير من القدرة على التعامل مع مقتضيات اللحظة وحتميتها.

ثانيا- ليست مصادفة من جانب تحالف وثيقة بروكسل اختيار العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبى، فكما يعلم الجميع أن "بروكسل" هى مقر الاتحاد الأوروبى وكذلك مقر حلف الناتو، وبالتالى اختيار العاصمة البلجيكية يستهدف التأثير فى الرأى العام الأوروبى بأن هناك مبادرات من جانب الجماعة تستهدف المصالحة، وأن التعنت والرفض يأتى من قادة ثورة الثلاثين من يونيو. ولا شك أن هذه الحسابات أيضا قد جانبها الصواب فى ظل التغير الذى طرأ على موقف الاتحاد الأوروبى واعترافه بشرعية ما جرى فى الثلاثين من يونيو بل إشادات مسئوليه بما يجرى فى مصر، ولعل المُطلع على آخر تصريحات المنسقة الأوروبية "كاترين أشتون" يدرك ذلك.

ثالثا- تظل حزمة المبادئ الواردة فى الوثيقة بغض النظر عن الحاجة إلى إضافة مبادئ أخرى إليها أو إعادة صياغة بعضها، تتسم بالعمومية. بمعنى أنها لا تضيف شيئا إلى الواقع السياسى الراهن، فهى تتحدث فى عموميات عما يجب أن يتم فى المستقبل، وهو أسلوب لم تفطن الجماعة وتحالفاتها أن الشعب المصرى بعد ثورتين من الصعب عليه أن يُخدع مرة أخرى بشعارات عامة وكلمات رنانة وعبارات طنانة تحاول أن تخاطب مشاعرهم وعواطفهم، فى حين أن عقول الشباب هى الأوجب بالمخاطبة، فضلا عن ذلك أن خبرة الشعب المصرى مع جماعة الإخوان فى الوفاء بتعهداتها أو الالتزام بما توقع عليه من اتفاقات، خبرة سلبية سواء فيما يتعلق باتفاق (فرمونت) وغيره من التعهدات التى قطعتها الجماعة على نفسها وسرعان ما تتنصل عنها كما حدث فى مشروع النهضة الذى سار كابوسا للشعب بأسره.

رابعًا- لا تتسم الوثيقة بالعمومية فحسب، بل تضمنت كثيرًا من المغالطات التي تحتاج إلى تصويب، منها على سبيل المثال ما ورد فى المبدأ الثانى الذى يطالب المؤسسة العسكرية الالتزام بالحياد الكامل والانضباط العسكري التام بعيدا عن أي انحياز سياسي لأي طرف، فهذه المطالبة فى عموميتها صحيحها، بل إن الواقع العملى أثبت سواء فى ثورة 25 يناير أو فى موجتها التصحيحة أن المؤسسة العسكرية لا تنحاز إلا إلى الإرادة الشعبية. ولذا، فإن وضع هذه المطالبة ضمن المبادئ العشرة تعني من جانب واضعي الوثيقة أن المؤسسة العسكرية خالفت هذا المبدأ وهم يطالبونها بالالتزام بها، وهذه مغالطة كبرى كان يجب على واضعى الوثيقة الانتباه إليها.

كذلك ما ورد فى المبدأ التاسع بشأن العمل على استرداد الشعب لثرواته المنهوبة بالداخل والخارج، هذا المبدأ مهم ولكن ما يثير الدهشة أن أحد صائغى مبادئ الوثيقة الدكتور محمد محسوب المسئول عن ملف الأموال المصرية فى الخارج فى عهد الجماعة، وقد تم إنفاق ملايين الدولارات على هذا الملف، إلا أنه لم يخبرنا عما تحقق فى هذا الصدد، فهل ما أنفقته الدولة المصرية على يد الدكتور محسوب كان له مردود أما ضاعت أموال الشعب المصري؟

فضلا عن أنه يمكن الاستفادة من وجود الدكتور محسوب فى الخارج لاستعادة هذه الأموال كونه حريصا على أموال الشعب المصرى، أما أن هذا الحرص يرتبط فقط حينما تكون جماعته فى السلطة، أما حينما تصبح فى المعارضة فالأمر لا يعنيك؟

خلاصة القول إن وثيقة بروكسل تمثل قفزة للجماعة وتحالفاتها فى الهواء دون أن يكون لها أى مردود أو صدى على أرض الواقع لأمرين:

الأول- أن الوقت قد تجاوزها سواء بسبب تعارض هذه المبادئ مع سياسة الجماعة وتحالفها فى الاستمرار فى تبنى ممارسة العنف ضد المجتمع والدولة بما أفقدها المصداقية لدى الشعب، أو بسبب أن المجتمع المصرى حسم أمره واختار مصيره بعيدا عن خطابات العواطف ليبدأ مرحلة حقيقية من البناء والتنمية، فلم تعد تجدى معه مثل هذه الأساليب والخطابات.

أما الأمر الثاني- فهو يتعلق بالتعارض بين طبيعة المعارضة الوطنية وبين ما تفعله الجماعة وقياداتها الآن. فالتاريخ علمنا جميعا أن المعارضة المخلصة هى المعارضة التى توجد داخل حدود الدولة وتذود عن حقوق مواطنيها ضد تغول السلطة، فإذا ما نظرنا على سبيل المثال إلى المعارضة الوطنية فى التاريخ المصرى نجد أن كل زعماء المعارضة كان يقطنون الدولة المصرية بل كانت إحدى صور معاقبتهم حينما يتم استبعادهم من الدولة كما فعل الاحتلال البريطانى مع سعد زغلول.

ولكن أن تهرب المعارضة إلى الخارج وتتمتع بحماية هذه الدولة أو تلك ثم تمارس معارضتها بحجة أن عودتها تعنى سجنها، فهذا الأمر يضعها فى موضع الشك والريبة بعلاقتها مع الدولة التى تستضيفها وتنفق عليها، لأنه فى هذا الوقت لا يُنفق الدولة المستضيفة من أجل مصلحة هذه المعارضة أو مصلحة دولتها بقدر ما تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب مصالح وطنك، وهنا التساؤل الذى يبحث عن الإجابة: لماذا تنفق هذه الدول كل هذه المبالغ عليكم؟ هل من أجل الديمقراطية حقا كما تدعى فى خطابها الذى تكذبه ممارستها أم من أجل تهديد أمن دولتكم واستقرارها؟