أسفكسيا (3-3)

  • 221

في ظلال حديث الظلال لم أكن أكتب ..

ولكن كنت أتنفس..

أستنشق هواء عليلًا، يبث النور على من جديد، وهكذا الوحي..

هكذا الوحي  دائمًا و باستمرار. 

{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}.

وقد تكلمنا في المقالين السابقين عن مفاهيم فكرية تستمد طاقتها من روعة حديث الظلال، حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

والمفاهيم السابقة المذكورة كانت:

1- كيف نبنى أمة؟

 2 نعم نستطيع.

 3 - حل مشكلات الأمة.

ونأتي للمحور الرابع وهو:  «البداية الثابتة»

نعم البداية الثابتة أو التي لابد أن تثبت 

وهى البداية من يوم القيامة، أن نبدأ من هناك من عند ظل العرش، من هناك من  أحداق يوم القيامة ويا له من يوم.. والمتأمل في آيات سورة طه المتدبر لها لا يحتاج إلى كثير بيان وتفصيل..قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112).

حق ليوم كان هذا أن يعمل له.

وحين يتحول هذا اليوم إلى عدسات لاصقة ينظر بها إلى كل شئون حياته، ويتعامل الإنسان مع اهتماماته وأولوياته وابتلاءاته وخلواته من خلال هذا اليوم .. يكون قد وصل إلى المقصود.

وآيتا الشورى والإسراء هما العمدة في بناء هذه التجربة.

قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }.

إذا إما عدسات العاجلة أو عدسات الآخرة، وآية الشورى قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. 

فحرث الدنيا أم حرث الآخرة؟!

الآيات تضعك أمام اختيارات ..

ولا مجال للامتناع.

وحديث السبعة يجعل ظل العرش هو بوصلتك وهدفك .

يجعلك تتعامل بنظرية الميكروسكوب والتليسكوب، الميكروسكوب الدقيق لجميع تعاملات حياتك اليومية لتوضع على ميزان الآخرة، والميكروسكوب لحياتك المستقبلية، هناك عند ظل العرش تنظر به بعين الشوق داخل فؤادك لجنة عرضها السموات والأرض.

وتأمل في مجتمع ينشأ رواده على الرقابة الذاتية بعدسات لا تقضى ولا تنعدم، وهى عدسات اليوم وظل العرش.

وحين قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "ولولا اليوم الآخر لرأيتم غير ما ترون"، فقد اختصر كل المدخلات والمخرجات والعمليات لمنظومة الآخرة في حياة المسلم في كلمات معدودة، وهى وصف وترجمة للسلوك الظاهر أمام الجميع، وأن المبرر الوحيد لهذا السلوك هو مخافة اليوم الآخر ولولاه لتغيرت الأمر.

فأبطال المجتمع السبعة..  

معيارهم  الوحيد هو: { وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.

فخيارهم الوحيد الوجود عند ظل العرش بعيدا عن أهوال هذا اليوم.

فظهر ذلك سلوكًا عمليا في الدنيا حين بدأنا من هناك في الآخرة.

آيات اليوم الآخر في القرآن كنز لا يفنى، وهى مفتاح تدبر يحتاج منا إلى كثير مجهود وبذل وتركيز يحول حياة كل واحد منا إلى تطبيق عملي للميكروسكوب والتلسكوب، التليسكوب للبداية من هناك، والميكروسكوب الدقيق للزهد والورع هاهنا، ميكروسكوب يكون ثمرته عدل في حكم، ونشأة في طاعة، ويتخلق بمسجد، وثبات أمام شهوة، وصدقة في السر، ودمعة في خلوة، وصحبة لم تبنَ إلا على طاعة الله...

فقط ابدأ من هناك.

«المحور الخامس»: تغيير العالم بالأفعال لا بالأقوال من الداخل إلى الخارج.

دعونا نعترف أن بعض النجاحات أصبحت مثل الهواتف الصينية، صوتها مرتفع جدًا ولكنها في نفس الوقت رخيصة جدًا، ومنخفضة الجودة جدًا.

الهدوء والسكينة يخالط مسامعك وأنت تتنقل في ظلال هذا الحديث، إنجازات من غير ضوضاء، عمل السر فيها وعمل القلب أمر مشترك بين النماذج السبعة، نجاحات من غير نظريات تنمية بشرية مستوردة من بيئة علمانية تفصل الدين عن الحياة "ولا يعنى هذا التعميم أن كلها كذلك، أبدًا فالاستفادة من بعضها جيد ومفيد، ولكن مقص الخياط المحترف هو الأصل في التعامل مع أغلب مواد التنمية البشرية المستوردة؛ لابد من قصها لتناسب البيئة الإسلامية وبحذر."

فصلت الشباب عن رؤية دينه للنجاح وتنوعه ومرونته وعدم حصره في نوع أو مجال واحد؛ فالتنوع المبهر بين شهرة الإمام العادل وعمله أمام الناس، وبين سر صاحب الدمعة وخفائه عن الناس.

حديث السبعة دعوة للنجاح والإنجاز بعيدا عن ضوضاء العولمة وفرضيات عصر الاستهلاك والفردية والمادية.

فهذه المفاهيم أصبحت تحاصر إنجازاتنا، بل تفرض عليها في بعض الأحيان.

فتحولت النجاحات إلى سلع استهلاكية بلا بذل ولا تضحية، وتحولت إلى أحوال مادية لا دعوات ربانية، وإلى انعزالات فردية لا إلى أعمال مجتمعية ميدانية جماعية.

وحديث السبعة صفعة على وجه هذه المفاهيم، والمواجهة مستمرة، ولابد من المواجهة والخيار لك..

فرجل قلبه معلق بالسوق والبضائع.

أو قلبه معلق بالشهرة والمواقع. 

أو قلبه معلق بالمال والنساء والموائد.

أو قلبه معلق بالله واليوم الآخر والمساجد.

حديث السبعة طريق معتمد للإنجاز،

والنجاح من خلال بوابة الوحي.

نجاح متنوع في كل مجال ومكان،

في غرفة، في شارع، في سياسة، في اقتصاد، 

حديث السبعة تحطيم لقيود التجارب مع وجود الضوابط الصلبة، ودعوة للمرونة في التجارب مع وجود الضوابط الصلبة للكتاب والسنة.

تغيير حديث السبعة تغيير يبدأ من الداخل؛ حيث لا مجال لعبث عابث، تغيير داخل صدرك، أنت وربك فقط، وهو وحده مقلب القلوب.

فالحاكم العادل يعلم من داخل قلبه إن كان عادلا أو لا، حتى لو لم يعرف كل من حوله.

والشاب هو وحده يعرف إن كان نشأ في طاعة الله أم لا، وبقية النماذج عمل السر فيها ظاهر لا يحتاج إلى كثير بيان.

حديث السبعة حديث للتجديد والإحياء؛ لفك القيد عن رقبة أمة تعانى من اختناق المفاهيم، من "أسفكسيا مفاهمية" تخنقها ( وكلمة أسفاكسيا هي المصطلح الطبي لكلمة اختناق).

حديث السبعة يقول لنا: ابنِ أمتك... ليكن لك دور من مكانك، وتستطيع مواجهة مشكلات أمتك الرئيسة.

ابدأ من اليوم الآخر.

التغيير من الداخل إلى الخارج بالأفعال لا بالأقوال.

حديث السبعة حديث للتنفس، لعودة الأمة لمعادلة التغيير، للعمل في الممكن، للوصول إلى المستحيل، وما ذلك على الله بعزيز.

حجز تذكرة في قطار السبعة أمر يبدأ من عندك أنت!

من رغبة مشتعلة في الوجود والتواجد تحت العرش؛ للبداية من هناك لبناء العالم هاهنا.

حديث السبعة دعوة للتوبة من خطيئة اللا فعل، واللا دور.

دعوة للمشاركة ولجعل هذا الكون مكانًا أفضل للعبادة الله.

والعمل على طاعته، دعوة لأن يكون لنا دور في عودة منهاج النبوة ليعود معه كل شيء، وأختم حديث السبعة بجملة لن أكملها وقم بإكمالها أنت أخي يا بطل السبعة.

إذا غبت عن الدنيا  العالم سيخسر بغيابي....           (أكمل الجملة)

إن لم تجد إجابة أو كلمة تكمل بها الجملة؛ فلتبدأ من هناك، وإن وجدت فأنت قد بدأت ومن الله التوفيق. 

لن نخرق السفينة، وسنغرس الفسيلة بإذن الله.